وعلى هذا الوجه فوجه كون هذا الجعل لهم ظاهر لأن الآجال آجالهم . وكونه لا ريب فيه أيضا ظاهر لأنهم لا يرتابون في أن لحياتهم آجالا . وقد تضمن قوله ( وجعل لهم أجلا ) تعريضا بالمنة بنعمة الإمهال على كلا المعنيين وتعريضا بالتذكير بإفاضة الأرزاق عليهم في مدة الأجل لأن في ذكر خلق السماء والأرض تذكيرا بما تحتويه السماوات والأرض من الأرزاق وأسبابها .
وجملة ( فأبى الظالمون إلا كفورا ) تفريع على الجملتين باعتبار ما تضمنتاه من الإنكار والتعجيب . أي علموا أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إعادة الأجسام ومع علمهم أبوا إلا كفورا . فالتفريع من تمام الإنكار عليهم والتعجيب من حالهم .
واستثناء المفور من الإباية تأكيد للشيء بما يشبه ضده .
والكفور : جحود النعمة وتقدم آنفا . واختير ( الكفور ) هنا تنبيها على أنهم كفروا بما يجب اعتقاده وكفروا نعمة المنعم عليهم فعبدوا غير المنعم .
( قل لو تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا [ 100 ] ) اعتراض ناشئ عن بعض مقترحاتهم التي توهموا عدم حصولها دليلا على انتفاء إرسال بشير فالكلام استئناف لتكملة رد شبهاتهم . وهذا رد لما تضمنه قولهم ( حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) إلى قوله ( تفجيرا ) وقولهم ( أو يكون لك بيت من زخرف ) من تعذر حصول ذلك لعظيم قيمته .
ومعنى الرد : أن هذا ليس بعظيم في جانب خزائن رحمة الله لو شاء أن يظهره لكم .
A E وأدمج في هذا الرد بيان ما فيهم من البخل عن الإنفاق في سبيل الخير . وأدمج في ذلك أيضا تذكيرهم بأن الله أعطاهم من خزائن رحمته فكفروا نعمته وشكروا الأصنام التي لا نعمة لها . ويصلح لأن يكون هذا خطابا للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم كل على قدر نصيبه .
وشأن ( لو ) أن يليها الفعل ماضيا في الأكثر أو مضارعا في اعتبارات فهي مختصة بالدخول على الأفعال فإذا أوقعوا الاسم بعدها في الكلام وأخروا الفعل عنه فإنما يفعلون ذلك لقصد بليغ : إما لقصد التقوي والتأكيد للإشعار بأن ذكر الفعل بعد الأداة ثم ذكر فاعله ثم ذكر الفعل مرة ثانية تأكيد وتقوية ؛ مثل قوله ( وإن أحد من المشركين استجارك ) وإما للانتقال من التقوي إلى الاختصاص بناء على أنه ما قدم الفاعل من مكانه إلا لقصد طريق غير مطروق . وهذا الاعتبار هو الذي يتعين التخريج عليه في هذه الآية ونحوها من الكلام البليغ ومنه قول عمر لأبي عبيدة " لو غيرك قالها " .
والمعنى : لو أنتم أخصصتم بملك خزائن رحمة الله دون الله لما أنفقتم على الفقراء شيئا . وذلك أشد في التقريع وفي الامتنان بتخييل أن إنعام غيره كالعدم .
وكلا الاعتبارين لا يناكد اختصاص " لو " بالأفعال للاكتفاء بوقوع الفعل في حيزها غير موال إياها وموالاته إياها أمر أغلبي ولكن لا يجوز أن يقال : لو أنت عالم لبذذت الأقران .
واختير الفعل المضارع لأن المقصود فرض أن يملكوا ذلك في المستقبل .
و ( أمسكتم ) هنا منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول لأن المقصود : إذن لاتصفتم بالإمساك أي البخل . يقال : فلان ممسك أي بخيل . ولا يراد أنه ممسك شيئا معينا .
وأكد جواب ( لو ) بزيادة حرف ( إذن ) فيه لتقويه معنى الجوابية ولأن في " إذن " معنى الجزاء كما تقدم آنفا عند قوله ( قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذن لا بتغوا إلى ذي العرش سبيلا ) . ومنه قول بشر بن عوانة : .
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لقى الهزبر أخاك بسرا .
إذن لرأيت ليثا أم ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا وجملة ( وكان الإنسان فتورا ) حالية أو اعتراضية في آخر الكلام وهي تفيد تذييلا لأنها عامة الحكم . فالواو فيها ليست عاطفة .
والقتور : الشديد البخل مشتق من القتر وهو التضييق في الإنفاق .
( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا [ 101 ] قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا [ 102 ] )