وبهذا يعلم أن قوله ( بما أغويتني ) إشارة إلى غواية يعلمها الله وهي التي جبله عليها فلذلك اختير لحكايتها طريقة الموصولية ويعلم أن كلام الشيطان هذا طفح بما في جبلته وليس هو تشفيا أو إغاظة لأن العظمة الإلهية تصده عن ذلك .
وزيادة ( في الأرض ) لأنها أول ما يخطر بباله عند خطور الغواية لاقتران الغواية بالنزول إلى الأرض الذي دل عليه قوله تعالى ( فاخرج منها ) أي اخرج من الجنة إلى الأرض كما جاء في الآية الأخرى قال ( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ) ولأن جعل التزيين في الأرض يفيد انتشاره في جميع ما على الأرض من الذوات وأحوالها .
وضمائر : ( لهم ) ( ولأغوينهم ) و ( منهم ) لبني آدم لأنه قد علم علما ألقي في وجدانه بان آدم " عليه السلام " ستكون له ذرية أو اكتسب ذلك من أخبار العالم العلوي أيام كان من أهله وملئه .
وجعل المغوين هم الأصل واستثنى منهم عباد الله المخلصين لأن عزيمته منصرفة إلى الإغواء فهو الملحوظ ابتداء عنده على أن المغوين هم الأكثر . وعكسه قوله تعالى ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك ) . والاستثناء لا يشعر بقلة المستثنى بالنسبة للمستثنى منه ولا العكس .
وقرئ ( المخلصين ) " بفتح اللام " لنافع وحمزة وعاصم والكسائي على معنى الذين أخلصتهم وطهرتهم . و " بكسر اللام " لابن كثير وابن عامر وأبي عمرو أي الذين أخلصوا لك في العمل .
( قال هذا صراط علي مستقيم [ 41 ] إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 42 ] وإن جهنم لموعدهم أجمعين [ 43 ] لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 44 ] ) الصراط المستقيم : هو الخبر والرشاد .
فالإشارة إلى ما يؤخذ من الجملة الواقعة بعد اسم الإشارة المبينة للإخبار عن اسم الإشارة وهي جملة ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) فتكون الإشارة إلى غير مشاهد تنزيلا له منزلة المشاهد وتنزيلا للمسموع منزلة المرئي .
ثم إن هذا المنزل منزلة المشاهد هو مع ذلك غير مذكور لقصد التشويق إلى سماعه عند ذكره . فاسم الإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن كما يكتب في العهود والعقود : هذا ما قاضى عليه فلان فلانا أنه كيت وكيت أو هذا ما اشترى فلان من فلان أنه باعه كذا وكذا .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى الاستثناء الذي سبق في حكاية كلام إبليس من قوله ( إلا عبادك منهم المخلصين ) لتضمنه أنه لا يستطيع غواية العباد الذين أخلصهم الله للخير فتكون جملة ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) مستأنفة أفادت نفي سلطانه .
A E والصراط : مستعار للعمل الذي يقصد منه عامله فائدة . شبه بالطريق الموصل إلى المكان المطلوب وصوله إليه أي هذا هو السنة التي وضعتها في الناس وفي غوايتك إياهم وهي أنك لا تغوي إلا من اتبعك من الغاوين أو أنك تغوي من عدا عبادي المخلصين .
و ( مستقيم ) نعت ل ( صراط ) أي لا اعوجاج فيه . واستعيرت الاستقامة لملازمة الحالة الكاملة .
و ( على ) مستعملة في الوجوب المجازي وهو الفعل الدائم الذي لا يتخلف كقوله تعالى ( إن علينا للهدى ) أي أنا التزمنا الهدى لا نحيد عنه لأنه مقتضى الحكمة وعظمة الإلهية .
وهذه الجملة مما يرسل من الأمثال القرآنية .
وقرأ الجمهور ( علي ) بفتح اللام وفتح الياء على أنها ( على ) اتصلت بها ياء المتكلم . وقرأه يعقوب " بكسر اللام وضم الياء وتنوينها " على أنه وصف من العلو وصف به صراط أي صراط شريف عظيم القدر .
والمعنى أن الله وضع سنة في نفوس البشر أن الشيطان لا يتسلط إلا على من كان غاويا أي مائلا للغواية مكتسبا لها دون من كبح نفسه عن الشر . فإن العاقل إذا تعلق به وسواس الشيطان علم ما فيه من إضلال وعلم أن الهدى في خلافه فإذا توفق وحمل نفسه على اختيار الهدى وصرف إليه عزمه قوي على الشيطان فلم يكن له عليه سلطان وإذا مال إلى الضلال واستحسنه واختار إرضاء شهوته صار متهيئا إلى الغواية فأغواه الشيطان فغوى . فالاتباع مجاز بمعنى الطاعة واستحسان الرأي كقوله ( فاتبعوني يحببكم الله )