والحق : هنا بمعنى الصدق والوفاء بالموعود به . وضده : الإخلاف ولذلك قال ( ووعدتكم فأخلفتكم ) أي كذبت موعدي . وشمل وعد الحق جميع ما وعدهم الله بالقرآن على لسان رسوله A . وشمل الخلف جميع ما كان يعدهم الشيطان على لسان أوليائه وما يعدهم إلا غرورا .
والسلطان : اسم مصدر تسلط عليه أي غلبه وقهره أي لم أكن مجبرا لكم على اتباعي فيما أمرتكم .
والاستثناء في ( إلا أن دعوتكم ) استثناء منقطع لأن ما بعد حرف الاستثناء ليس من جنس ما قبله . فالمعنى : لكني دعوتكم فاستجبتم لي .
وتفرع على ذلك ( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) . والمقصود : لوموا أنفسكم أي إذ قبلتم إشارتي ودعوتي . وقد تقدم بيانه صدر الكلام على الآية .
ومجموع الجملتين يفيد معنى القصر كأنه قال : فلا تلوموا إلا أنفسكم وهو في معنى قصر قلب بالنسبة إلى إفراده باللوم وحقهم التشريك فقلب اعتقادهم إفراده دون اعتبار الشركة وهذا من نادر معاني القصر الإضافي وهو مبني على اعتبار أجدر الطرفين بالرد وهو طرف اعتقاد العكس بحيث صار التشريك كالملغى لأن الحظ الأوفر لأحد الشريكين .
وجملة ( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) بيان لجملة النهي عن لومه لأن لومه فيه تعريض بانهم يتطلبون منه حيلة لنجاتهم فنفي ذلك عن نفسه بعد أن نهاهم عن أن يلوموه .
والإصراخ : الإغاثة اشتق من الصراخ لأن المستغيث يصرخ بأعلى صوته فقيل : أصرخه إذا أجاب صراخه كما قالوا : أعتبه إذا قبل استعتابه . وأما عطف ( وما أنتم بمصرخي ) فالمقصود منه استقصاء عدم غناء أحدهما عن الآخر .
وقرأ الجمهور ( بمصرخي ) بفتح التحتية مشددة . وأصله بمصرخيي بياءين : أولاهما ياء جمع المذكر المجرور وثانيهما ياء المتكلم وحقها السكون فلما التقت الياءان ساكنتين وقع التخلص من التقاء الساكنين بالفتحة لخفة الفتحة .
وقرأ حمزة وخلف ( بمصرخي ) " بكسر الياء " تخلصا من التقاء الساكنين بالكسرة لأن الكسرة هو أصل التخلص من التقاء الساكنين . قال الفراء : تحريك الياء بالكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين إلا أن كسر ياء المتكلم في مثله نادر . وأنشد في تنظير هذا التخلص بالكسر قول الأغلب العجلي : .
قال لها هل لك يا تافي ... قالت له : ما أنت بالمرضي أراد هل لك في يا هذه . وقال أبو على الفارسي : زعم قطرب أنها لغة بني يربوع . وعن أبي عمرو بن العلاء أنه أجاز الكسر . واتفق الجميع على أن التخلص بالفتحة في مثله أشهر من التخلص بالكسرة وإن كان التخلص بالكسرة هو القياس وقد أثبته سند قراءة حمزة . وقد تحامل عليه الزجاج وتبعه الزمخشري وسبقهما في ذلك أبو عبيد والأخفش بن سعيد وابن النحاس ولم يطلع الزجاج والزمخشري على نسبة ذلك البيت للأغلب العجلي .
A E والذي ظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يربوع من تميم وبنو عجل ابن لجيم من بكر بن وائل فقرأوا بلهجتهم أخذا بالرخصة للقبائل أن يقرأوا القرآن بلهجاتهم وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبي A " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه " كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير ثم نسخت تلك الرخصة بقراءة النبي A في الأعوام الأخيرة من حياته المباركة ولم يثبت ما ينسخها في هذه الآية . واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ووافقت وجها في العربية ولم تخالف رسم المصحف الإمام . وهذه الشروط متوفرة في قراءة حمزة هذه كما علمت آنفا فقصارى أمرها أنها تتنزل منزلة ما ينطق به أحد فصحاء العرب على لغة قبائلها بحيث لو قرئ بها في الصلاة لصحت عند مالك وأصحابه .
وجملة ( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) استئناف آخر من تبعات عبادتهم إياه قصد منه دفع زيادة العذاب عنه بإظهار الخضوع لله تعالى . وأرادت بقوله ( كفرت ) شدة التبري من إشراكهم إياه في العبادة فإن أراد من مضى فعل ( كفرت ) مضي الأزمنة كلها أي كنت غير راض بإشراككم إياي فهو كذب منه أظهر به التذلل وإن كان مراده من المضي إنشاء عدم الرضى بإشراكهم إياه فهو ندامة بمنزلة التوبة حيث لا يقبل متاب . و ( من قبل ) على التقديرين متعلق ب ( أشركتمون )