وجملة ( يمحو الله ما يشاء ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة ( لكل أجل كتاب ) تقتضي أن الوعيد كائن وليس تأخيره مزيلا له . ولما كان في ذلك تأييس للناس عقب بالإعلام بأن التوبة مقبولة وبإحلال الرجاء محل اليأس فجاءت جملة ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) احتراسا .
وحقيقة المحو : إزالة شيء وكثر في إزالة الخط أو الصورة ومرجع ذلك إلى عدم المشاهدة قال تعالى ( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) . ويطلق مجازا على تغيير الأحوال وتبديل المعاني كالأخبار والتكاليف والوعد والوعيد فإن لها نسبا ومفاهيم إذا صادفت ما في الواقع كانت مطابقتها إثباتا لها وإذا لم تطابقه كان عدم مطابقتها محوا لأنه إزالة لمدلولاتها .
والتثبيت : حقيقته جعل الشيء ثابتا قارا في مكان قال تعالى ( إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) . ويطلق مجازا على أضداد معاني المحو المذكورة . فيندرج في ما تحتمله الآية عدة معان : منها أنه يعدم ما يشاء من الموجودات ويبقي ما يشاء منها ويعفو عما يشاء من الوعيد ويقرر وينسخ ما يشاء من التكاليف ويبقي ما يشاء .
وكل ذلك مظاهر لتصرف حكمته وعلمه وقدرته . وإذ قد كانت تعلقات القدرة الإلهية جارية على وفق علم الله تعالى كان ما في علمه لا يتغير فإنه إذا أوجد شيئا كان عالما أنه سيوجده وإذا أزال شيئا كان عالما أنه سيزيله وعالما بوقت ذلك .
وأبهم الممحو والمثبت بقوله ( ما يشاء ) لتتوجه الأفهام إلى تعرف ذلك والتدبر فيه لأن تحت هذا الموصول صورا لا تحصى وأسباب المشيئة لا تحصى .
ومن مشيئة الله تعالى محو الوعيد أن يلهم المذنبين التوبة والإقلاع ويخلق في قلوبهم داعية الامتثال . ومن مشيئة التثبيت أن يصرف قلوب قوم عن النظر في تدارك أمورهم وكذلك القول في العكس من تثبيت الخير ومحوه .
ومن آثار المحو تغير إجراء الأحكام على الأشخاص فبينما ترى المحارب مبحوثا عنه مطلوبا للأخذ فإذا جاء تائبا قبل القدرة عليه قبل رجوعه ورفع عنه ذلك الطلب وكذلك إجراء الأحكام على أهل الحرب إذا آمنوا ودخلوا تحت أحكام الإسلام .
وكذلك الشأن في ظهور آثار رضى الله أو غضبه على العبد فبينما ترى أحدا مغضوبا عليه مضروبا عليه المذلة لانغماسه في المعاصي إذا بك تراه قد أقلع وتاب فأعزه الله ونصره .
ومن آثار ذلك أيضا تقليب القلوب بان يجعل الله البغضاء محبة كما قالت هند بنت عتبة للنبي A بعد أن أسلمت : " ما كان أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك واليوم أصبحت وما أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك " .
وقد محا الله وعيد من بقي من أهل مكة فرفع عنهم السيف يوم فتح مكة قبل أن يأتوا مسلمين ولو شاء لأمر النبي A باستئصالهم حين دخوله مكة فاتحا .
A E وبهذا يتحصل أن لفظ ( ما يشاء ) عام يشمل كل ما يشاؤه الله تعالى ولكنه مجمل في مشيئة الله بالمحو والإثبات وذلك لا تصل الأدلة العقلية إلى بيانه ولم يرد في الأخبار المأثورة ما يبينه إلا القليل على تفاوت في صحة أسانيده . ومن الصحيح فيما ورد من ذلك قول النبي A : " أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " .
والذي يلوح في معنى الآية أن ما في أم الكتاب لا يقبل محوا فهو ثابت وهو قسيم لما يشاء الله محوه .
ويجوز أن يكون ما في أم الكتاب هو عين ما يشاء الله محوه أو إثباته سواء كان تعينا بالأشخاص أو بالذوات أو بالأنواع وسواء كانت الأنواع من الذوات أو من الأفعال وأن جملة ( وعنده أم الكتاب ) أفادت أن ذلك لا يطلع عليه أحد .
ويجوز أن يكون قوله ( وعنده أم الكتاب ) مرادا به الكتاب الذي كتبت به الآجال وهو قوله ( لكل أجل كتاب ) . وأن المحو في غير الآجال