والأظهر أنه جعل إرسال قميصه علامة على صدق إخوته فيما يبلغونه إلى أبيهم من أمر يوسف " عليه السلام " بجلبه فإن قمصان الملوك والكبراء تنسج إليهم خصيصا ولا توجد أمثالها عند الناس وكان الملوك يخلعونها على خاصتهم فجعل يوسف " عليه السلام " إرسال قميصه علامة لأبيه على صدق إخوته أنهم جاءوا من عند يوسف " عليه السلام " بخبر صدق .
ومن البعيد ما قيل : إن القميص كان قميص إبراهيم " عليه السلام " مع أن قميص يوسف قد جاء به إخوته إلى أبيهم حين جاءوا عليه بدم كذب .
وأما إلقاء القميص على وجه أبيه فلقصد المفاجأة بالبشرى لأنه كان لا يبصر من بعيد فلا يتبين رفعة القميص إلا من قرب .
وأما كونه يصير بصيرا فحصل ليوسف " عليه السلام " بالوحي فبشرهم به من ذلك الحين . ولعل يوسف " عليه السلام " نبئ ساعتئذ .
وأدمج الأمر بالإتيان بأبيه في ضمن تبشيره بوجوده إدماجا بليغا إذ قال ( يأت بصيرا ) ثم قال ( واتوني بأهلكم أجمعين ) لقصد صلة أرحام عشيرته . قال المفسرون : وكانت عشيرة يعقوب " عليه السلام " ستا وسبعين نفسا بين رجال ونساء .
( ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون [ 94 ] قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 95 ] فلما أن جاء البشير ألقياه على وجهه فارتد بصيرا ) التقدير : فخرجوا وارتحلوا في عير .
ومعنى ( فصلت ) ابتعدت عن المكان كما تقدم في قوله تعالى ( فلما فصل طالوت بالجنود ) في سورة البقرة .
والعير تقدم آنفا وهي العير التي أقبلوا فيها من فلسطين .
ووجدان يعقوب ريح يوسف " عليه السلام " إلهام خارق للعادة جعله الله بشارة له إذ ذكره بشمة الريح الذي ضمخ به يوسف " عليه السلام " حين خروجه مع إخوته وهذا من صنف الوحي بدون كلام ملك مرسل وهو داخل في قوله تعالى ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) .
والريح : الرائحة وهي ما يعبق من طيب تدركه حاسة الشم .
وأكد هذا الخبر ب ( أن ) واللام لأنه مظنة الإنكار ولذلك أعقبه ب ( لولا أن تفندون ) .
وجواب ( لولا ) محذوف دل عليه التأكيد أي لولا أن تفندوني لتحققتم ذلك .
والتفنيد : النسبة للفند بفتحتين وهو اختلال العقل من الخوف .
وحذفت ياء المتكلم تخفيفا بعد نون الوقاية وبقيت الكسرة .
والذين قالوا ( تالله إنك لفي ضلالك القديم ) هم الحاضرون من أهله ولم يسبق ذكرهم لظهور المراد منهم وليسوا أبناءه لأنهم كانوا سائرين في طريقهم إليه .
والضلال : البعد عن الطريق الموصلة . والظرفية مجاز في قوة الاتصاف والتلبس وانه المظروف بالظرف . والمعنى : أنك مستمر في التلبس بتطلب شيء من غير طريقة . أرادوا طمعه في لقاء يوسف " عليه السلام " ووصفوا ذلك بالقديم لطول مدته وكانت مدة غيبه يوسف عن أبيه " عليهما السلام " اثنين وعشرين سنة . وكان خطابهم إياه بهذا مشتملا على شيء من الخشونة إذ لم يكن أدب عشيرته منافيا لذلك في عرفهم .
و ( أن ) في قوله ( فلما جاء البشير ) مزيدة للتأكيد . ووقوع " أن " بعد " لما " التوقيتية كثير من الكلام كما في مغني اللبيب .
وفائدة التأكيد في هذه الآية تحقيق هذه الكرامة الحاصلة ليعقوب " عليه السلام " لأنها خارق عادة ولذلك لم يؤت ب ( أن ) في نظائر هذه الآية مما لم يكن فيه داع للتأكيد .
والبشير : فعيل بمعنى مفعل أي المبشر مثل السميع في قول عمرو بن معد يكرب : .
" أمن ريحانة الداعي السميع والتبشير : المبادرة بإبلاغ الخبر المسر بقصد إدخال السور . وتقدم عند قوله تعالى ( يبشرهم ربهم برحمة منه ) في سورة براءة . وهذا البشير هو يهوذا بن يعقوب " عليه السلام " تقدم بين يدي العير ليكون أول من يخبر أباه بخبر يوسف " عليه السلام " A E وارتد : رجع وهو افتعال مطاوع رده أي رد الله إليه قوة بصره كرامة له وليوسف " عليهما السلام " وخارقة للعادة . وقد أشرت إلى ذلك عند قوله تعالى ( وابيضت عيناه من الحزن ) .
( قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون [ 96 ] قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين [ 97 ] قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم [ 98 ] )