والمعنى أن أكثر الناس في جهالة عن وضع هاته الحقائق موضعها ولا يخلون عن مضيع لإحداهما . ويفسر هذا المعنى قول عمر بن الخطاب " Bه " لما أمر المسلمين بالقفول عن عمواس لما بلغه ظهور الطاعون بها وقال له أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر " Bه " : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ألسنا نفر من قدر الله إلى قدر الله... إلى آخر الخبر .
( ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون [ 69 ] ) موقع جملة ( ولما دخلوا على يوسف ) كموقع جملة ( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ) في إيجاز الحذف .
والإيواء : الإرجاع . وتقدم في قوله تعالى ( أولئك مأواهم النار ) في سورة يونس .
وأطلق الإيواء هنا مجازا على الإدناء والتقريب كأنه إرجاع إلى مأوى وإنما أدناه ليتمكن من الإسرار إليه بقوله ( إني أنا أخوك ) .
وجملة ( قال إني أنا أخوك ) بدل اشتمال من جملة ( آوى إليه أخاه ) . وكلمة بكلمة مختصرة بليغة إذ أفاده أنه هو أخوه الذي ظنه أكله الذئب . فأكد الخبر ب " إن " وبالجملة الاسمية وبالقصر الذي أفاده ضمير الفصل أي أنا مقصورة على الكون أخاك لا أجنبي عنك فهو قصر قلب لاعتقاده أن الذي كلمه لا قرابة بينه وبينه .
وفرع على هذا الخبر ( فلا تبتئس بما كانوا يعملون ) . والابتئاس : مطاوعة الإبئاس أي جعل أحد بائسا أي صاحب بؤس .
والبؤس : هو الخزن والكدر . وتقدم نظير هذا التركيب في قصة نوح " عليه السلام " من سورة هود . والضميران في ( كانوا ) و ( يعلمون ) راجعان إلى إخوتهما بقرينة المقام وأراد بذلك ما كان أخوه " بنيامين " من الحزن لهلاك أخيه الشقيق وفظاظة اخوته وغيرهم منه .
والنهي عن الابتئاس مقتض الكف عنه أي أزل عنك الحزن واعتض عنه بالسرور .
وأفاد فعل الكون في المضي أن المراد ما علموه فيما مضى . وأفاد صوغ ( يعلمون ) بصيغة المضارع أنه أعمال متكررة من الأذى . وفي هذا تهيئة لنفس أخيه لتلقي حادث الصواع باطمئنان حتى لا يخشى أن يكون بمحل الريبة من يوسف " عليه السلام " .
A E ( فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون [ 70 ] قالوا وأقبلوا عليهم ما ذا تفقدون [ 71 ] قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم [ 72 ] قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين [ 73 ] قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين [ 74 ] قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين [ 75 ] ) تقدم الكلام على نظير قوله ( فلما جهزهم بجهازهم ) في الآيات قبل هذه . وإسناد جعل السقاية إلى ضمير يوسف مجاز عقلي وإنما هو آمر بالجعل والذين جعلوا السقاية هم العبيد الموكلون بالكيل .
والسقاية : إناء كبير يسقى به الماء والخمر . والصواع : لغة في الصاع وهو وعاء للكيل يقدر بوزن رطل وربع أو وثلث . وكانوا يشربون الخمر بالمقدار يقدر كل شارب لنفسه ما اعتاد أنه لا يصرعه ويجعلون آنية الخمر مقدرة بمقادير مختلفة فيقول الشارب للساقي : رطلا أو صاعا أو نحو ذلك . فتسمية هذا الإناء سقاية وتسميته صواعا جارية على ذلك . وفي التوراة سمي طاسا ووصف بأنه من فضة .
وتعريف ( السقاية ) تعريف العهد الذهني أي سقاية معروفة لا يخلو عن مثلها مجلس العظيم .
وإضافة الصواع إلى الملك لتشريفه وتهويل سرقته على وجه الحقيقة لأن شؤون الدولة كلها للملك . ويجوز أن يكون أطلق الملك على يوسف " عليه السلام " تعظيما له .
والتأذين : النداء المكرر . وتقدم عند قوله تعالى ( فأذن مؤذن بينهم ) في سورة الأعراف .
والعير : اسم للحمولة من إبل وحمير وما عليها من أحمال وما معها من ركابها فهو اسم لمجموع هذه الثلاثة . وأسندت السرقة إلى جميعهم جريا على المعتاد من مؤاخذة الجماعة بجرم الواحد منهم .
وتأنيث اسم الإشارة وهو ( أيتها ) لتأويل العير بمعنى الجماعة لأن الركاب هم الأهم