والصرف : نقل الشيء من مكان إلى مكان وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه . عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئا . والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه .
والسوء : القبيح وهو خيانة من ائتمنه . والفحشاء : المعصية وهي الزنى . وتقدم السوء والفحشاء عند قوله تعالى ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ) في سورة البقرة . ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما .
وجملة ( إنه من عبادنا المخلصين ) تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاه الله إياه في هذه الشدة على النفس .
A E قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف ( المخلصين ) بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بكسر اللام على معنى المخلصين دينهم لله . ومعنى التعليل على القراءتين واحد .
والاستباق : افتعال من السبق . وتقدم آنفا وهو هنا إشارة إلى تكلفهما السبق أي أن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب .
وانتصب " الباب " على نزع الخافض . وأصله : واستبقا إلى الباب مثل ( واختار موسى قومه سبعين رجلا ) أي من قومه أو على تضمين ( استبقا ) معنى ابتدرا .
والتعريف في ( الباب ) تعريف الجنس إذ كانت عدة أبواب مغلقة . وذلك أن يوسف عليه السلام فر من مراودتها إلى الباب يريد فتحه والخروج وهي تريد أن تسبقه إلى الباب لتمنعه من فتحه .
وجملة ( وقدت قميصه ) في موضع الحال . و ( قدت ) أي قطعت أي قطعت منه قدا وذلك قبل الاستباق لا محالة . لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف عليه السلام أنها راودته إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف عليه السلام سبقها مسرعا إلى الباب فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد إكراهه على ما راودته فجذب نفسه فتخرق القميص من شدة الجذبة . وكان قطع القميص من دبر لأنه كان موليا عنها معرضا فأمسكته منه لرده عن إعراضه .
وقد أبدع إيجاز الآية في جمع هذه المعاني تحت جملة ( واستبقا الباب وقدت قميصه ) .
وصادف أن ألفيا سيدها أي زوجها وهو العزيز عند الباب الخارجي يريد الدخول إلى البيت من الباب الخارجي . وإطلاق السيد على الزوج قيل : إن القرآن حكى به عادة القبط حينئذ كانوا يدعون الزوج سيدا . والظاهر أنه لم يكن ذلك مستعملا في عادة العرب فالتعبير به هنا من دقائق التاريخ مثل قوله الآتي ( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . ولعل الزواج في مصر في ذلك العهد كان بطريق الملك غالبا . وقد علم من الكلام أن يوسف عليه السلام فتح الأبواب التي غلقتها زليخا بابا بابا حتى بلغ الخارجي كل ذلك في حال استباقهما وهو إيجاز .
والإلفاء : وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه فالأكثر أن يكون مفاجئا أو حاصلا عن جهل بأول حصول كقوله تعالى ( قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) .
وجملة ( قالت ما جزاء ) الخ مستأنفة بيانيا لأن السامع يسأل : ماذا حدث عند مفاجأة سيدها وهما في تلك الحالة .
وابتدرته بالكلام إمعانا في البهتان بحيث لم تتلعثم تخيل له أنها على الحق وأفرغت الكلام في قالب كلي ليأخذ صيغة القانون وليكون قاعدة لا يعرف المقصود منها فلا يسع المخاطب إلا الإقرار لها . ولعلها كانت تخشى أن تكون محبة العزيز ليوسف عليه السلام مانعة له من عقابه فأفرغت كلامها في قالب كلي . وكانت تريد بذلك أن لا يشعر زوجها بأنها تهوى غير سيدها وأن تخيف يوسف عليه السلام من كيدها لئلا يمتنع منها مرة أخرى .
ورددت يوسف عليه السلام بين صنفين من العقاب وهما : السجن أي الحبس . وكان الحبس عقابا قديما في ذلك العصر واستمر إلى زمن موسى عليه السلام فقد قال فرعون لموسى عليه السلام ( لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ) .
وأما العذاب فهو أنواع وهو عقاب أقدم في اصطلاح البشر . ومنه الضرب والإيلام بالنار وبقطع الأعضاء . وسيأتي ذكر السجن في هذه السورة مرارا