واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف عليه السلام ؛ خاطب الوارد بقية السيارة ولم يكونوا يرون ذات يوسف عليه السلام حين أصعده الوارد من الجب إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام فتعين أيضا أنهم لم يكونوا مشاهدين شيح يوسف عليه السلام حين ظهر من الجب فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معينة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصل شيء فرح به غير مترقب كما يقول الصائد لرفاقه : هذا غزال ! وكما يقول الغائص : هذه صدفة ! أو لؤلؤة ! ويقول الحافر للبئر : هذا الماء ! قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه : .
يقول راكبه الجني مرتفقا ... هذا لكن ولحم الشاة محجور وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون . قال النابغة : .
أو درة صدفاته غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد A E والمعنى : وجدت في البئر غلاما فهو لقطة فيكون عبدا لمن التقطه . وذلك سبب ابتهاجه بقوله ( يا بشراي هذا غلام ) .
والغلام : من سنه بين العشر والعشرين . وكان سن يوسف عليه السلام يومئذ سبع عشرة سنة .
وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيلين كما في التوراة أي أبناء إسماعيل ابن إبراهيم . وقيل : كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب .
ومعنى ( أسروه ) . والضمير للسيارة لا محالة أي أخفوا يوسف عليه السلام أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردى في الجب فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت وكان الشأن أن يعرفوا من كان قريبا من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللقطة ولذلك كان قوله ( وأسروه ) بأن يوسف عليه السلام أخبرهم بقصته فأعرضوا عن ذلك طمعا في أن يبيعوه . وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين .
و ( بضاعة ) منصوب على الحال المقدرة من الضمير المنصوب في ( أسروه ) أي جعلوه بضاعة . والبضاعة : عروض التجارة ومتاعها أي عزموا على بيعه .
وجملة ( والله عليم بما يعملون ) معترضة أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حق في استرقاقه ومن كان حقه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم لأنهم قد علموا خبره أو كان من حقهم أن يسألوه لأنه كان مستطيعا أن يخبرهم بخبره .
وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف عليه السلام آية من لطف الله به .
( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين [ 20 ] ) معنى ( شروه ) باعوه . يقال : شرى كما يقال : باع ويقال : اشترى كما يقال : ابتاع . ومثلهما رهن وارتهن وعاوض واعتاض وكرى واكترى .
والأصل في ذلك وأمثاله أن الفعل للحدث والافتعال لمطاوعة الحدث .
ومن فسر ( شروه ) باشتروه أخطأ خطأ أوقعه فيه سوء تأويل قوله ( وكانوا فيه من الزاهدين ) . وما ادعاه بعض أهل اللغة أن شرى واشترى مترادفان في معنييهما يغلب على ظني أنه وهم إذ لا دليل يدل عليه .
والبخس : أصله مصدر بخسه إذا نقصه عن قيمة شيئه . وهو هنا بمعنى المبخوس كالخلق بمعنى المخلوق . وتقدم فعل البخس عند قوله تعالى ( ولا يبخس منه شيئا ) في سورة البقرة .
و ( دراهم ) بدل من ( ثمن ) وهي جمع درهم وهو المسكوك . وهو معرب عن الفارسية كما في صحاح الجوهري .
وقد أغفله الذين جمعوا ما هو معرب في القرآن كالسيوطي في الإتقان .
و ( معدودة ) كناية عن كونها قليلة لأن الشيء القليل يسهل عدة فإذا كثر صار تقديره بالوزن أو الكيل . ويقال في الكناية عن الكثرة : لا يعد .
وضمائر الجمع كلها للسيارة على أصح التفاسير .
والزهادة : قلة الرغبة في حصول الشيء الذي من شأنه أن يرغب فيه أو قلة الرغبة في عوضه كما هنا أي كان السيارة غير راغبين في إغلاء ثمن يوسف عليه السلام . ولعل سبب ذلك قلة معرفتهم بالأسعار .
وصوغ الإخبار عن زهادتهم فيه بصيغة ( من الزاهدين ) أشد مبالغة مما لو أخبر بكانوا فيه زاهدين لأن جعلهم من فريق زاهدين ينبي بأنهم جروا في زهدهم في أمثاله على سنن أمثالهم البسطاء الذين لا يقدرون قدر نفائس الأمور