وقرأ نافع وأبو جعفر ( غيابات ) بالجمع . ومعناه جهات تلك الغيابة أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم كقوله تعالى ( أو كظلمات في بحر لجي ) وقرأ الباقون ( في غيابة الجب ) بالإفراد .
A E والتعريف في ( الجب ) تعريف العهد الذهني أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم : ادخل السوق . وهو في المعنى كالنكرة .
فلعلهم كانوا قد عهدوا جبابا كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم وقد توخوا أن تكون طرائقهم عليها وأحسب أنها كانت ينصب إليها ماء السيول وأنها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أن إلقاءه في الجب لا يهشم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه .
و ( يلتقطه ) جواب الأمر في قوله ( وألقوه ) . والتقدير : إن تلقوه يلتقطه . والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أن ما أشار به القائل من إلقاء يوسف عليه السلام في غيابة جب هو أمثل مما أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنه يحصل به إبعاد يوسف عليه السلام عن أبيه إبعادا لا يرجى بعده تلاقيهما دون إلحاق ضر الإعدام بيوسف عليه السلام ؛ فإن التقاط السيارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده لأنه إذا التقطه السيارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعدا على بعد .
والالتقاط : تناول شيء من الأرض أو الطريق واستعير لأخذ شيء مضاع .
والسيارة : الجماعة الموصوفة بحالة السير وكثرته فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلاحة والبحارة .
والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنهم علموا أن الطريق لا تخلو من قوافل بين الشام ومصر للتجارة والميرة .
وجملة ( إن كنتم فاعلين ) شرط حذف جوابه لدلالة ( وألقوه ) أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألقوه في غيابات الجب ولا تقتلوه .
وفيه تعريض بزيادة التريث فيما أضمروه لعلهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو ( إن ) إيماء إلى أنه لا ينبغي الجزم به فكان هذا القائل أمثل الإخوة رأيا وأقربهم إلى التقوى وقد علموا أن السيارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء لأنها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر . وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط .
( قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون [ 11 ] أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون [ 12 ] ) استئناف بياني لأن سوق القصة يستدعي تساؤل السامع عما جرى بعد إشارة أخيهم عليهم وهل رجعوا عما بيتوا وصمموا على ما أشار به أخوهم .
وابتداء الكلام مع أبيهم بقولهم ( يا أبانا ) يقضي أن تلك عادتهم في خطاب الابن أباه .
ولعل يعقوب عليه السلام كان لا يأذن ليوسف عليه السلام بالخروج مع إخوته للرعي أو للسبق خوفا عليه من أن يصيبه سوء من كيدهم أو من غيرهم ولم يكن يصرح لهم بأنه لا يأمنهم عليه ولكن حاله في منعه من الخروج كحال من لا يأمنهم عليه فنزلوه منزلة من لا يأمنهم وأتوا بالاستفهام المستعمل في الإنكار على نفي الائتمان .
وفي التوراة أن يعقوب عليه السلام أرسله إلى إخوته وكانوا قد خرجوا يرعون وإذا لم يكن تحريفا فلعل يعقوب عليه السلام بعد أن امتنع من خروج يوسف عليه السلام معهم سمح له بذلك أو بعد أن سمع لومهم عليه سمح له بذلك .
وتركيب ( ما لك ) لا تفعل . تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى ( فما لكم كيف تحكمون ) في سورة يونس وانظر قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) في سورة براءة . وقوله ( فما لكم في المنافقين فئتين ) في سورة النساء .
واتفق القراء على قراءة ( لا تأمنا ) بنون مشددة مدغمة من نون أمن ونون جماعة المتكلمين وهي مرسومة في المصحف بنون واحدة . واختلفوا في كيفية النطق بهذه النون بين إدغام محض وإدغام بإشمام وإخفاء بلا إدغام وهذا الوجه الأخير مرجوح وأرجح الوجهين الآخرين الإدغام بإشمام وهما طريقتان للكل وليسا مذهبين .
وحرف ( على ) التي يتعدى بها فعل الأمن المنفي للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن من تعلق الائتمان بمدخول ( على )