وأما الذين رجحوا أن السورة كلها مكية فقالوا : إن الآية نزلت في الأمر بإقامة الصلوات وإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بها الذي سأله عن القبلة الحرام وقد جاء تائبا ليعلمه بقوله ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) فيؤول قول الراوي : فأنزلت عليه أنه أنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضية السائل ولجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب غير الفواحش .
ويؤيد ذلك ما في رواية الترمذي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قوله : فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وأقم الصلاة ) ولم يقولا : فأنزل عليه .
وقوله ( ذلك ذكرى للذاكرين ) أي تذكرة للذي شأنه أن يذكر ولم يكن شأنه الإعراض عن طلب الرشد والخير وهذا أفاد العموم نصا . وقوله ( ذلك ) الإشارة إلى المذكور قبله من قوله ( فاستقم كما أمرت ) .
( واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [ 115 ] ) عطف على جملة ( فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ) الآيات لأنها سيقت مساق التثبيت من جراء تأخير عقاب الذين كذبوا .
ومناسبة وقوع الأمر بالصبر عقب الأمر بالاستقامة والنهي عن الركون إلى الذين ظلموا أن المأمورات لا تخلو عن مشقة عظيمة ومخالفة لهوى كثير من النفوس فناسب أن يكون الأمر بالصبر بعد ذلك ليكون الصبر على الجميع كل بما يناسبه .
وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنويه به . والمقصود هو وأمته بقرينة التعليل بقوله ( فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) لما فيه من العموم والتفريع المقتضي جمعهما أن الصبر من حسنات المحسنين وإلا لما كان للتفريع موقع . وحرف التأكيد مجلوب للاهتمام بالخبر .
A E وسمي الثواب أجرا لوقوعه جزاء على الأعمال وموعودا به فأشبه الأجر .
( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين [ 116 ] ) هذا قوي الاتصال بقوله تعالى ( وكذلك أخذ ربك ) فيجوز أن يكون تفريعا عليه ويكون ما بينهما اعتراضا دعا إليه الانتقال الاستطرادي في معان متماسكة . والمعنى فهلا كان في تلك الأمم أصحاب بقية من خير فنهوا قومهم عن الفساد لما حل بهم ما حل . وذلك إرشاد إلى وجوب النهي عن المنكر . ويجوز أن يكون تفريعا على قوله تعالى ( فاستقم كما أمرت ) والآية تفريع على الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان وعن الركون إلى الذين ظلموا إذ المعنى : ولا تكونوا كالأمم من قبلكم إذ عدموا من ينهاهم عن الفساد في الأرض وينهاهم عن تكذيب الرسل فأسرفوا في غلوائهم حتى حل عليهم غضب الله إلا قليلا منهم فإن تركتم ما أمرتم به كان حالكم كحالهم ولأجل هذا المعنى أتي بفاء التفريع لأنه في موقع التفصيل والتعليل لجملة ( فاستقم كما أمرت ) وما عطف عليها ؛ كأنه قيل : وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم فلولا كان منهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلى آخره أي فاحذروا أن تكونوا كما كانوا فيصيبكم ما أصابهم وكونوا مستقيمين ولا تطغوا ولا تركنوا إلى الظالمين وأقيموا الصلاة فغير نظم الكلام إلى هذا الأسلوب الذي في الآية لتفنن فوائده ودقائقه واستقلال أغراضه مع كونها آيلة إلى غرض يعممها . وهذا من أبدع أساليب الإعجاز الذي هو كرد العجز على الصدر من غير تكلف ولا ظهور قصد .
ويقرب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " .
و ( لولا ) حرف تحضيض بمعنى " هلا " . وتحضيض الفائت لا يقصد منه إلا تحذير غيره من أن يقع فيما وقعوا فيه والعبرة بما أصابهم .
والقرون : الأمم . وتقدم في أول الأنعام .
والبقية : الفضل والخير . وأطلق على الفضل البقية كناية غلبت فسارت مسرى الأمثال لأن شأن الشيء النفيس أن صاحبه لا يفرط فيه .
وبقية الناس : سادتهم وأهل الفضل منهم قال رويشد بن كثير الطائي : .
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت