فمعنى قوله ( وما أريد أن أخالفكم ) أنه ما يريد مجرد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم . ومن هذا الاستعمال ما ورد في الحديث لما جاء وفد فزاره إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر الصديق " أمر الأقرع بن حابس وقال عمر : أمر فلانا فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلى خلافي فقال عمر : ما أردت إلى خلافك " . فهذا التفسير له وجه وجيه في هذه الآية . وفي هذا ما يدل على أن المنتقدين قسمان قسم ينتقد الشيء ويقف عند حد النقد دون ارتقاء إلى بيان ما يصلح المنقود . وقسم ينتقد ليبين وجه الخطأ ثم يعقبه ببيان ما يصلح خطأه . وعلى هذا الوجه يتعلق ( إلى ما أنهاكم ) بفعل ( أريد ) وكذلك ( أن أخالفكم ) يتعلق ب ( أريد ) على حذف حرف لام الجر . والتقدير : ما أريد إلى النهي لأجل أن أخالفكم أي لمحبة خلافكم .
A E وجملة ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) بيان لجملة ( ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) لأن انتفاء إرادة المخالفة إلى ما نهاهم عنه مجمل فيما يريد إثباته من أضداد المنفي فبينه بأن الضد المراد إثباته هو الإصلاح في جميع أوقات استطاعته بتحصيل الإصلاح فالقصر قصر قلب .
وأفادت صيغة القصر تأكيد ذلك لأن القصر قد كان يحصل بمجرد الاقتصار على النفي والإثبات نحو أن يقول : ما أريد أن أخالفكم أريد الإصلاح كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السمؤال : .
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل ولما بين لهم حقيقة عمله وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله فقال ( وما توفيقي إلا بالله ) فسمى إرادته الإصلاح توفيقا وجعله من الله لا يحصل في وقت إلا بالله أي بإرادته وهديه فجملة ( وما توفيقي إلا بالله ) في موضع الحال من ضمير ( أريد ) .
والتوفيق : جعل الشيء وفقا لآخر أي طبقا له ولذلك عرفوه بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة .
جملة ( عليه توكلت ) في موضع الحال من اسم الجلالة أو من ياء المتكلم في قوله ( توفيقي ) لأن المضاف هنا كالجزء من المضاف إليه فيسوغ مجيء الحال من المضاف إليه .
والتوكل مضى عند قوله تعالى ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) في سورة آل عمران .
والإنابة تقدمت آنفا في قوله ( إن إبراهيم لحليم أواه منيب ) .
( ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد [ 89 ] واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود [ 90 ] ) تقدم الكلام على النكتة في إعادة النداء في الكلام الواحد لمخاطب متحد قريبا .
وتقدم الكلام على ( لا يجر منكم ) عند قوله تعالى ( ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) في أول العقود أي لا يكسبنكم .
والشقاق : مصدر شاقه إذا عاداه . وقد مضت عند قوله تعالى ( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ) في أول الأنفال .
والمعنى : لا تجر إليكم عداوتكم إياي إصابتكم بمثل ما أصاب قوم نوح إلى آخره فالكلام في ظاهره أنه ينهى الشقاق أن يجر إليهم ذلك . والمقصود نهيهم عن أن يجعلوا الشقاق سببا للإغراض عن النظر في دعوته فيوقعوا أنفسهم في أن يصيبهم عذاب مثل ما أصاب الأمم قبلهم فيحسبوا أنهم يمكرون به بإعراضهم وما يمكرون إلا بأنفسهم .
ولقد كان فضح سوء نواياهم الداعية لهم إلى الإعراض عن دعوته عقب إظهار حسن نيته مما دعاهم إليه بقوله ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) مصادفا محز جودة الخطابة إذ رماهم بأنهم يعملون بضد ما يعاملهم به .
وجملة ( وما قوم لوط منكم ببعيد ) في موضع الحال من ضمير النصب في قوله ( أن يصيبكم ) والواو رابطة الجملة . ولمعنى الحال هنا مزيد مناسبة لمضمون جملتها إذ اعتبر قرب زمانهم بالمخاطبين كأنه حالة من أحوال المخاطبين