والإنشاء من الأرض خلق آدم من الأرض لأن إنشاءه إنشاء لنسله وإنما ذكر تعلق خلقهم بالأرض لأنهم كانوا أهل غرس وزرع كما قال في سورة الشعراء ( أتتركون فيما هاهنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم ) ولأنهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتا ويبنون في الأرض قصورا كما قال في الآية الأخرى ( وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ) فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيدت نعمة الخلق بأنها من الأرض التي أنشئوا منها ولذلك عطف عليه ( واستعمركم فيها ) .
والاستعمار : الإعمار أي جعلكم عامرينها فالسين والتاء للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق . ومعنى الإعمار أنهم جعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأن ذلك يعد تعميرا للأرض حتى سمي الحرث عمارة لأن المقصود منه عمر الأرض .
وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتوبة إليه أي طلب مغفرة إجرامهم والإقلاع عما لا يرضاه من الشرك والفساد . ومن تفنن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التعليل وجعلت علة أيضا للأمر بالاستغفار والتوبة بطريق التفريع .
وعطف الأمر بالتوبة بحرف التراخي للوجه المتقدم في قوله ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) في الآية المتقدمة .
وجملة ( إن ربي قريب مجيب ) استئناف بياني كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم مما يقبل الاستغفار عنه فأجيبوا بأن الله قريب مجيب وبذلك ظهر أن الجملة ليست بتعليل . وحرف ( إن ) فيها للتأكيد تنزيلا لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشك في قبول استغفاره .
والقرب : هنا مستعار للرأفة والإكرام لأن البعد يستعار للجفاء والإعراض . قال جبير بن الأضبط .
تباعد عني مطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا فكذلك يستعار ضده لضده . وتقدم في قوله ( فإني قريب أجيب دعوة الداعي ) في سورة البقرة . والمجيب هنا : مجيب الدعاء وهو الاستغفار . وإجابة الدعاء : إعطاء السائل مسؤوله .
( قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب [ 62 ] ) هذا جوابهم عن دعوته البليغة الوجيزة الملأى إرشادا وهديا . وهو جواب ملئ بالضلال والمكابرة وضعف الحجة .
وافتتاح الكلام بالنداء لقصد التوبيخ أو الملام والتنبيه كما تقدم في قوله ( قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ) . وقرينة التوبيخ هنا أظهر وهي قولهم ( قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) فإنه تعريض بخيبة رجائهم فيه فهو تعنيف .
و ( قد ) لتأكيد الخبر .
وحذف متعلق ( مرجوا ) لدلالة فعل الرجاء على أنه ترقب الخير أي مرجوا للخير . أي والآن وقع اليأس من خيرك . وهذا يفهم منه أنهم يعدون ما دعاهم إليه شرا وإنما خاطبوه بمثل هذا لأنه بعث فيهم وهو شاب " كذا قال البغوي في تفسير سورة الأعراف " أي كنت مرجوا لخصال السيادة وحماية العشيرة ونصرة آلهتهم .
والإشارة في ( قبل هذا ) إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم .
وجملة ( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) بيان لجملة ( قد كنت فينا مرجوا ) باعتبار دلالتها على التعنيف واشتمالها على اسم الإشارة الذي تبينه أيضا جملة ( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) .
والاستفهام : إنكار وتوبيخ .
وعبروا عن أصنامهم بالموصول لما في الصلة من الدلالة على استحقاق تلك الأصنام أن يعبدوها في زعمهم اقتداء بآبائهم لأنهم أسوة لهم وذلك مما يزيد الإنكار اتجاها في اعتقادهم .
A E