ووجه جعلهم هذا القول سحرا أن في معتقداتهم وخرافاتهم أن من وسائل السحر الأقوال المستحيلة والتكاذيب البهتانية والمعنى أنهم يكذبون بالبعث كلما أخبروا به لا يترددون في عدم إمكان حصوله بله إيمانهم به .
ومبين : اسم فاعل أبان المهموز الذي هو بمعنى بان المجرد أي بين واضح أنه سحر أو أنه ساحر .
( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ) مناسبته لما قبله أن في كليهما وصف فن من أفانين عناد المشركين وتهكمهم بالدعوة الإسلامية فإذا خبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعث وأن شركهم سبب لتعذيبهم جعلوا كلامه سحرا وإذا أنذرهم بعقوبة العذاب على الإشراك استعجلوه فإذا تأخر عنهم إلى أجل اقتضته الحكمة الربانية استفهموا عن سبب حبسه عنهم استفهام تهكم ظنا أن تأخره عجز .
واللام موطئة للقسم . وجملة ( ليقولن ما يحبسه ) جواب القسم مغنية عن جواب الشرط .
والأمة : حقيقتها الجماعة الكثيرة من الناس الذين أمرهم واحد وتطلق على المدة كأنهم راعوا أنها الأمد الذي يظهر فيه جيل فأطلقت على مطلق المدة أي بعد مدة .
و ( معدودة ) معناه مقدرة أي مؤجلة . وفيه إيماء إلى أنها ليست مديدة لأنه شاع في كلام العرب إطلاق العد والحساب ونحوهما على التقليل لأن الشيء القليل يمكن ضبطه بالعدد ولذلك يقولون في عكسه : بغير حساب مثل ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) .
والحبس : إلزام الشيء مكانا لا يتجاوزه . ولذلك يستعمل في معنى المنع كما هنا أي ما يمنع أن يصل إلينا ويحل بنا وهم يريدون التهكم .
( ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون [ 8 ] ) هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن كلامهم إذ يقولون ما يحبس عنا العذاب فلذلك فصلت كما تفصل المحاورة . وهذا تهديد وتخويف بأنه لا يصرف عنهم ولكنه مؤخر .
وافتتح الكلام بحرف التنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخال الروع في ضمائرهم .
وتقديم الظرف للإيماء بأن إتيان العذاب لا شك فيه حتى أنه يوقت بوقت .
والصرف : الدفع والإقصاء .
والحوق : الإحاطة .
والمعنى أنه حال بهم حلولا لا مخلص منه بحال .
وجملة ( وحاق بهم ) في موضع الحال أو معطوفة على خبر ( ليس ) .
وصيغة المضي مستعملة في معنى التحقق وهذا عذاب القتل يوم بدر .
وما صدق ( ما كانوا به يستهزئون ) هو العذاب وباء ( به ) سببية أي بسبب ذكره فإن ذكر العذاب كان سببا لاستهزائهم حين توعدهم به النبي صلى الله عليه وسلم .
والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من سباب غضب الله عليهم . وتقديره إحاطة العذاب بهم بحيث لا يجدون منه مخلصا .
( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور [ 9 ] ) A E عطف على جملة ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) . فإنه لما ذكر أن ما هم فيه متاع إلى أجل معلوم عند الله . وأنهم بطروا نعمة التمتيع فسخروا بتأخير العذاب بينت هذه الآية أن أهل الضلالة راسخون في ذلك لأنهم لا يفكرون في غير اللذات الدنيوية فتجري انفعالاتهم على حسب ذلك دون رجاء لتغير الحال ولا يتفكرون في أسباب النعيم والبؤس وتصرفات خالق الناس ومقدر أحوالهم ولا يتعظون بتقلبات أحوال الأمم فشأن أهل الضلالة أنهم إن حلت بهم الضراء بعد النعمة ملكهم اليأس من الخير ونسوا النعمة فجحدوها وكفروا منعمها فإن تأخير العذاب رحمة وإتيان العذاب نزع لتلك الرحمة وهذه الجملة في قوة التذييل . فتعريف ( الإنسان ) تعريف الجنس مراد به الاستغراق وبذلك اكتسبت الجملة قوة التذييل . فمعيار العموم الاستثناء في قوله تعالى ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) كما يأتي فيكون الاستغراق عرفيا جاريا على اصطلاح القرآن من إطلاق لفظ الإنسان أو الناس ولأن وصفي ( يؤوس كفور ) يناسبان المشركين فيتخصص العام بهم .
وقيل التعريف في ( الإنسان ) للعهد مراد منه إنسان خاص فروى الواحدي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة . وعنه أنها نزلت في عبد الله بن أبي أمية المخزومي . ويجوز أن يكون المراد كل إنسان إذا حل به مثل ذلك على تفاوت في الناس في هذا اليأس