والإذن : هنا إذن تكوين وتقدير . فهو خلق النفس مستعدة لقبول الحق مميزة بين الحق والباطل والصلاح والفساد متوصلة بالنظر الصحيح إلى معرفة ما ينبغي أن يتبع وما لا ينبغي متمكنة بصحة الإرادة من زجر داعية الهوى والأعراض العاجلة ومن اتباع داعية الحق والعاقبة الدائمة حتى إذا وجه إليها الإرشاد حصل فيها الهدى .
ويومئ إلى هذا المعنى من الإذن قوله في مقابلة ( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) فقابل هذه الحالة بحالة الذين لا يعقلون فعلم أن حالة الإيمان حالة من يعقلون فبينت آية ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض ) أن إيمان من لم يؤمن هو لعدم مشيئة الله إيمانه . وبينت هذه الآية أن إيمان من آمن هو بمشيئة الله إيمانه وكلاهما راجع إلى تقدير التكوين في النفوس والعقول .
والرجس : حقيقته الخبث والفساد . وأطلق هنا على الكفر لأنه خبث نفساني والقرينة مقابلته بالإيمان كالمقابلة التي في قوله ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا إلى قوله فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) . والمعنى : ويوقع الكفر على الذين لا يعقلون . والمراد نفي العقل المستقيم أي الذين لا تهتدي عقولهم إلى إدراك الحق ولا يستعملون عقولهم بالنظر في الأدلة .
و ( على ) للاستعلاء المجازي المستعمل في التمكن .
وقرأ الجمهور ( ويجعل الرجس ) بياء الغيبة والضمير عائد إلى اسم الجلالة الذي قبله . وقرأه أبو بكر عن عاصم ( ونجعل ) بنون العظمة .
( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) استئناف ناشئ عن قوله ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس ) الخ . قسم الناس إلى قسمين : مؤمنين وكافرين أي فادعهم إلى النظر في دلائل الوحدانية والإرشاد إلى تحصيل أسباب الإيمان ودفع غشاوات الكفر وذلك بالإرشاد إلى النظر والاستدلال بما هو حول الإنسان من أحوال الموجودات وتصاريفها الدالة على الوحدانية مثل أجرام الكواكب وتقادير مسيرها وأحوال النور والظلمة والرياح والسحاب والمطر وكذلك البحار والجبال .
وافتتحت الجملة ب ( قل ) للاهتمام بمضمونها .
وقد عمم ما في السماوات والأرض لتتوجه كل نفس إلى ما هو أقرب إليها وأيسر استدلالا عليه لديها .
والنظر : هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له فجيء بعده بالاستفهام المعلق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحا للمعنيين الحقيقي والمجازي وذلك من مقاصد القرآن .
A E و ( ماذا ) بمعنى ما الذي و ( ما ) استفهام و ( ذا ) أصله اسم إشارة وهو إذا وقع بعد ( ما ) قام مقام اسم موصول . و ( في السماوات والأرض ) قائم مقام صلة الموصول . وأصل وضع التركيب : ما هذا في السماوات والأرض أي ما المشار إليه حال كونه في السماوات والأرض فكثر استعماله حتى صار في معنى : ما الذي . والمقصود : انظروا ما يدلكم على جواب هذا الاستفهام فكل شيء له حالة فهو مراد بالنظر العقلي بتركيبه في صورة مفعولين نحو : انظروا الشمس طالعة وانظروا السحاب ممطرا وهكذا وكل شيء هو في ذاته آية فهو مراد بالنظر البصري نحو : انظروا إنبات الأرض بعد جدبها فهو آية على وقوع البعث . ف ( ذا ) لما قام مقام اسم الموصول صار من صيغ العموم تشمل جميع الأجرام وأعراضها الدالة على وحدانية الله وحكمته وأخص ذلك التأمل في خلق النبي صلى الله عليه وسلم ونشأة دعوته والنظر فيما جاء به . فكل ذلك دلائل على كماله وصدقه .
وقد طوي في الكلام جواب الأمر لوقوع الأمر عقب أسباب الإيمان فالتقدير : انظروا تروا آيات موصلة إلى الإيمان