وقال الله هذا الكلام له على لسان الملك الموكل بتعذيبه تأييسا له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال ( آمنت ) إلى آخره فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق . ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه ( فاليوم ننجيك ببدنك ) كما سيأتي .
والاستفهام في ( الآن ) إنكاري .
والآن : ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله ( آمنت ) تقديره : الآن تؤمن أي هذا الوقت . ويقدر الفعل مؤخرا لأن الظرف دل عليه ولأن محط الإنكار هو الظرف .
والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي علق به الإنكار ليس وقتا ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي فيكون المعنى : لا إيمان الآن .
والمنفي هو إيمان ينجي من حصل منه في الدنيا والآخرة . وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت . وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي كما تقدم عند قوله تعالى ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار ) .
و ( الآن ) اسم ظرف للزمان الحاضر . وقد تقدم عند قوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم ) في سورة الأنفال .
وجملة ( وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) في موضع الحال من معمول ( تؤمن ) المحذوف وهي مؤكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار فإن إيمانه في ذلك الحين منكر ويزيده إنكارا أن صاحبه كان عاصيا لله ومفسدا للدين الذي أرسله الله إليه ومفسدا في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر .
وصيغة ( كنت من المفسدين ) أبلغ في الوصف بالإفساد من : وكنت مفسدا كما تقدم آنفا وبمقدار ما قدمه من الآثام والفساد يشدد عليه العذاب .
والفاء التي في قوله ( فاليوم ) فاء الفصيحة تفصح عن شرط مقدر في الكلام يدل عليه السياق . والمعنى : فإن رمت بإيمانك بعد فوات وقته أن أنجيك من الغرق فاليوم ننجيك ببدنك والكلام جار مجرى التهكم فإطلاق الإنجاء على إخراجه من البحر استعارة تهكمية .
وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها بل فيها علاقة المشابهة لأن إخراجه إلى البر كاملا بشكته يشبه الإنجاء ولكنه ضد الإنجاء فكان بالمشابهة استعارة وبالضدية تهكما والمجرور في قوله ( ببدنك ) حال .
A E والأظهر أن الباء من قوله ( ببدنك ) مزيدة للتأكيد أي تأكيد آية إنجاء الجسد فيكون قوله ( بدنك ) في معنى البدل المطابق من الكاف في ( ننجيك ) كزيادة الباء في قول الحريري : " فاذا هو أبو زيد بعينه ومينه " .
والبدن : الجسم بدون روح وهذا احتراس من أن يظن المراد الإنجاء من الغرق . والمعنى : ننجيك وأنت جسم . كما يقال : دخلت عليه فإذا هو جثة لأنه لو لم يكن المقصود الاقتصار على تلك الحالة لما كان داع للبليغ أن يزيد ذلك القيد فإن كل زيادة في الكلام البليغ يقصد منها معنى زائد وإلا لكانت حشوا في الكلام والكلام البليغ موزون ولغة العرب مبنية على أساس الإيجاز .
و ( لمن خلفك ) أي من وراءك . والوراء : هنا مستعمل في معنى المتأخر والباقي أي من ليسوا معك . والمراد بهم من يخلفه من الفراعنة ومن معهم من الكهنة والوزراء أي لتكون ذاته آية على أن الله غالب من أشركوا به وأن الله أعظم وأقهر من فرعون وآلهته في اعتقاد القبط إذ يرون فرعون الإله عندهم طريحا على شاطئ البحر غريقا . فتلك ميتة لا يستطيعون معها الدجل بأنه رفع إلى السماء أو أنه لم يزل يتابع بني إسرائيل أو نحو ذلك من التكاذيب لأنهم كانوا يزعمون أن فرعون لا يغلب وأن الفراعنة حين يموتون إنما ينقلون إلى دار الخلود . ولذلك كانوا يموهون على الناس فيبنون له البيوت في الأهرام ويودعون بها لباسه وطعامه ورياشه وأنفس الأشياء عنده فموته بالغرق وهو يتبع أعداءه ميتة لا تؤول بشيء من ذلك فلذلك جعل كونه آية لمن خلفه علة لإخراجه من غمرة الماء ميتا كاملا فهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه غرق إذا نظروا في تلك الآية .
ولم يعدم فرعون فائدة من إيمانه فإن الله بحكمته قدر له الخروج من غمرات الماء فلم يبق في الماء أكلة للحيتان ولكن لفظته الأمواج وتلك حالة أقل خزيا من حالات سائر جيشه بها ظهر نفع ما له بما حصل لنفسه من الإيمان في آخر أحواله