وأراد ( بالمجرمين ) فرعون وملأه فعدل عن ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر لما فيه من وصفهم بالإجرام تعريضا بهم . وإنما لم يخاطبهم بصفة الإجرام بأن يقول : وإن كرهتم أيها المجرمون عدولا عن مواجهتهم بالذم وقوفا عند أمر الله تعالى إذ قال له ( فقولا له قولا لينا ) فأتى بالقضية في صورة قضية كلية وهو يريد أنهم من جزئياتها بدون تصريح بذلك . وهذا بخلاف مقام النبي محمد A إذ قال الله له ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) لأن ذلك كان بعد تكرير دعوتهم وموسى عليه السلام كان في ابتداء الدعوة . ولأن المشركين كانوا محاولين من النبي أن يعبد آلهتهم فكان في مقام الإنكار بأبلغ الرد عليهم وموسى كان محاولا فرعون وملأه أن يؤمنوا فكان في مقام الترغيب باللين .
( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإيهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ) تفريع على ما تقدم من المحاورة أي فتفرع على ذلك أن فرعون وملأه لم يؤمنوا بموسى لأن حصر المؤمنين في ذرية من قوم موسى يفيد أن غيرهم لم يؤمنوا وهو المقصود فكانت صيغة القصر في هذا المقام إيجازا . والتقدير : تفرع على ذلك تصميم على الإعراض .
وقد طوي ما حدث بين المحاورة وبين تصميمهم على الإعراض وهو إلقاء موسى عصاه والتقامها ما ألقوه من سحرهم لعدم تعلق الغرض ببيان ذلك إذ المقصود الإفضاء إلى أنهم صمموا على الإعراض لأن ذلك محل تمثيل أعمالهم بحال مشركي أهل مكة .
A E وفعل ( آمن ) أصله " أأمن " بهمزتين : إحداهما أصلية في الكلمة لأن الكلمة مشتقة من الأمانة والثانية همزة مزيدة للتعدية أي جعله ذا أمانة أي غير كاذب فصار فعل ( آمن ) بمعنى صدق وحقه أن يعدى إلى المفعول بنفسه ولكن عدي باللام للتفرقة بين ( آمن ) بمعنى صدق من الأمانة وبين ( آمن ) بمعنى جعله في أمن أي لا خوف عليه منه .
وهذه اللام سماها ابن مالك لام التبيين وتبعه ابن هشام وهي تدخل على المفعول لتقوية معنى المفعولية ويؤكد قصد التقوية في مثل فعل ( آمن ) بمعنى صدق دفع أن يلتبس بفعل ( آمنه ) إذا جعله في أمن وسيأتي في قوله تعالى ( وقالوا لن نؤمن لك ) في سورة الإسراء .
وقد يعدى بالباء لتضمنه معنى صدق كما في قوله تعالى ( قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) .
والذرية : الأبناء وتقدم في قوله ( ذرية بعضها من بعض ) في سورة آل عمران .
أي فما آمن بما جاء به موسى إلا أبناء بني إسرائيل ولم تبلغ دعوته بقية قومه أو لم يؤمر بالتبليغ إليهم حينئذ .
و ( على ) في قوله ( على خوف من فرعون ) بمعنى " مع " مثل وآتى المال على حبه أي آمنوا مع خوفهم وهي ظرف مستقر في موضع الحال من ( ذرية ) أي في حال خوفهم المتمكن منهم .
وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خوفهم من فرعون .
والمعنى : أنهم آمنوا عند ظهور معجزته أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار . أي من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل فان عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء كما يقال : الغلمان فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) فيكون المأمور به ابتداء هو دعوة فرعون وتخليص بني إسرائيل من الأسر .
و ( الملأ ) تقدم آنفا في هذه القصة وأضيف الملأ إلى ضمير الجمع وهو عائد إلى الذرية أي على خوف من فرعون وعلى خوف من قومهم وهم بقية القوم الذين لم يحضروا ذلك المشهد خشية أن يغضبوا عليهم ويؤذنهم لإيمانهم بموسى لما يتوقعون من مؤاخذة فرعون بذلك جميع قبيلتهم على عادة الجبابرة في أخذ القبيلة بفعلة من بعض رجالها .
و ( الفتن ) إدخال الروع والاضطراب على العقل بسبب تسليط ما لا تستطيع النفس تحمله وتقدم في قوله تعالى ( والفتنة أشد من القتل ) في سورة البقرة . فهذا وجه تفسير الآية