والحق : يطلق اسما على ما قابل الباطل وهو العدل الصالح ويطلق وصفا على الثابت الذي لا ريبة فيه كما يقال : أنت الصديق الحق . ويلازم الإفراد لأنه مصدر وصف به . والذي أثبت له المجيء هنا هو الآيات التي أظهرها موسى إعجازا لهم لقوله قبله ( ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا ) فكان جعل الحق جائيا بتلك الآيات صالحا لمعنيي الحق لأن تلك الآيات لما كانت ثابتة لا ريبة فيها كانت في ذاتها حقا فمجيئها حصولها وظهورها المقصود منه إثبات صدق موسى في رسالته فكان الحق جائيا معها فمجيئه ثبوته كقوله تعالى ( وقل جاء الحق وزهق الباطل ) وبهذا يظهر أن لكلمة ( الحق ) هنا من الوقع في الدلالة على تمام المعنى المراد ولكلمة ( من عندنا ) ما ليس لغيرهما في الإيجاز وهذا من حد الإعجاز .
وبهذا تبين أن الآية دالة على أن آيات الصدق ظهرت وأن المحجوجين أيقنوا بصدق موسى وأنه جاء بالحق .
واعتذارهم عن ظهور الآيات بأنها سحر هو اعتذار المغلوب العديم الحجة الذي قهرته الحجة وبهره سلطان الحق فلم يبق له منتشب من المعارضة المقبولة فهو يهرع إلى انتحال معارضات بمعاذير لا تدخل تحت التمحيص ولا تثبت في محك النقد .
" ولا بد للمغلوب من بارد العذر " A E وإذ قد اشتهر بين الدهماء من ذوي الأوهام أن السحر يظهر الشيء في صورة ضده ادعى هؤلاء أن ما ظهر من دلائل صدق موسى هو سحر ظهر به الباطل في صورة الحق بتخييل السحر .
ومعنى إدعاء الحق سحرا أن دلائله من قبيل التخيلات والتمويهات فكذلك مدلوله هو مدلول السحر وهو إنشاء تخيل باطل في نفوس المسحورين وقد حملهم استشعارهم وهن معذرتهم على أن أبرزوا دعواهم في صورة الكلام المتثبت صاحبه فأكدوا الكلام بما دل عليه حرف التوكيد ولام الابتداء ( إن هذا لسحر ) وزادوا ذلك ترويجا بأن وصفوا السحر بكونه مبينا أي شديد الوضوح . والمبين اسم فاعل من أبان القاصر مرادف بان : ظهر .
والإشارة بقوله ( إن هذا ) إلى ما هو مشاهد بينهم حين إظهار المعجزة مثل انقلاب العصا حية وخروج اليد بيضاء أي أن هذا العمل الذي تشاهدونه سحر مبين .
وجملة ( قال موسى ) مجاوبة منه عن كلامهم ففصلت من العطف على الطريقة التي استخرجناها في حكاية الأقوال كما تقدم في قوله تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ) ونظائره الكثيرة . تولى موسى وحده دون هارون مجادلتهم لأنه المباشر للدعوة أصالة ولأن المعجزات ظهرت على يديه .
واستفهام ( أتقولون ) إنكاري .
واللام في ( للحق ) لام التعليل . وبعضهم يسميها لام البيان . وبعضهم يسميها لام المجاوزة بمعنى ( عن ) .
وجملة ( أسحر هذا ) مستأنفة للتوبيخ والإنكار أنكر موسى عليهم وصفهم الآيات الحق بأنها سحر . والإشارة تفيد التعريض بجهلهم وفساد قولهم بأن الإشارة إلى تلك الآيات كافية في ظهور حقيقتها وأنها ليست من السحر في شيء . ولذلك كان مفعول ( أتقولون ) محذوفا لدلالة الكلام عليه وهو ( إن هذا لسحر مبين ) فالتقدير : أتقولون هذا القول للحق لما جاءكم . وقريب منه قوله تعالى ( قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ) وقوله ( بيت طائفة منهم غير الذي تقول ) .
ولما نفى موسى عن آيات الله أن تكون سحرا ارتقى فأبان لهم فساد السحر وسوء عاقبة معالجيه تحقيرا لهم لأنهم كانوا ينوهون بشأن السحر . فجملة ( ولا يفلح الساحرون ) معطوفة على جملة ( أسحر هذا ) .
فالمعنى : هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح أي لو كان ساحرا لما شنع حال الساحرين إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته لأنه لو رآها محقرة لما التزمها .
( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ) الكلام على جملة ( قالوا أجئتنا ) مثل الكلام على جملة ( قال موسى أتقولون ) والاستفهام في ( أجئتنا ) بنوا إنكارهم على تخطئة موسى فيما جاء به وعلى سوء ظنهم به وبهارون في الغاية التي يتطلبانها مما جاء به موسى . وإنما واجهوا موسى بالخطاب لما تقدم من أنه الذي باشر الدعوة وأظهر المعجزة ثم أشركاه مع أخيه هارون في سوء ظنهم بهما في الغاية من عملهما