فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ وللتنزيل اصطلاح وعادات وتعرض صاحب الكشاف إلى شيء من عادات القرآن في متناثر كلامه في تفسيره .
A E فطرائق المفسرين للقرآن ثلاث إما الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل . وإما استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع كما أشرنا إليه في المقدمة الثانية .
ففي الطريقة الثانية قد فرع العلماء وفصلوا في الأحكام وخصوها بالتآليف الواسعة وكذلك تفاريع الأخلاق والآداب التي أكثر منها حجة الإسلام الغزالي في كتاب الإحياء فلا يلام المفسر إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية وله مزيد تعلق بالأمور الإسلامية كما نفرض أن يفسر قوله تعالى ( وكلم الله موسى تكليما ) بما ذكره المتكلمون في إثبات الكلام النفسي والحجج لذلك والقول في ألفاظ القرآن وما قاله أهل المذاهب في ذلك . وكذا أن يفسر ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع الخضر بكثير من آداب المعلم والمتعلم كما فعل الغزالي . وقد قال ابن العربي إنه أملى عليها ثمانمائة مسألة . وكذلك تقرير مسائل من علم التشريع لزيادة بيان قوله تعالى في خلق الإنسان ( من نطفة ثم من علقة ) الآيات فإنه راجع إلى المقصد وهو مزيد تقرير عظمة القدرة الإلهية .
وفي الطريقة الثالثة تجلب مسائل علمية من علوم لها مناسبة بمقصد الآية : إما على أن بعضها يومىء إليه معنى الآية ولو بتلويح ما كما يفسر أحد قوله تعالى ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها مدخلا ذلك تحت قوله ( خيرا كثيرا ) .
فالحكمة وإن كانت علما اصطلاحيا وليس هو تمام المعنى للآية إلا أن معنى الآية الأصلي لا يفوت وتفاريع الحكمة تعين عليه . وكذلك أن نأخذ من قوله تعالى ( كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة العامة ونعلل بذلك مشروعية الزكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال وعمل على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء .
وأن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير آي القرآن كما نفرض مسألة كلامية لتقرير دليل قرآني مثل برهان التمانع لتقرير معنى قوله تعالى ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . وكتقرير مسألة المتشابه لتحقيق معنى نحو قوله تعالى ( والسماء بنيناها بأيد ) فهذا كونه من غايات التفسير واضح وكذا قوله تعالى ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة وبين أسرارها وعللها بما هو مبين في علم الهيأة كان قد زاد المقصد خدمة . وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع . وإما على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من قوله تعالى ( ويوم نسير الجبال ) أن فناء العالم يكون بالزلازل ومن قوله ( إذا الشمس كورت ) الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم