وتفريع ( فننبئكم ) على جملة ( إلينا مرجعكم ) تفريع وعيد على تهديد . واستعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع . وفي ذكر ( كنتم ) والفعل المضارع دلالة على تكرر عملهم وتمكنه منهم . والوعيد الذي جاءت به هذه الآية وإن كان في شأن أعظم البغي فكان لكل آت من البغي بنصيب حظا من هذا الوعيد .
( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلنه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلنها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة ( متاع الحياة الدنيا ) المؤذنة بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد .
والمثل : الحال الماثلة على هيئة خاصة كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة . عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة .
A E وصيغة القصر لتأكيد المقصود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء . ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجئ . والمعنى : قصر حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف فالقصر قصر قلب بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة .
شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاما ومصيره حصيدا .
ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزء من الحالين المتشابهين ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه .
فقوله ( كماء أنزلناه من السماء ) شبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته فلذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه ما يؤمل منه من زخرف الأرض ونضارتها .
وقوله ( فاختلط به نبات الأرض ) شبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها . وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه .
وقوله ( مما يأكل الناس والأنعام ) وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول وأصناف تأكلها الأنعام من العشب والكلأ وذلك يشبه به ما ينعم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان فإن له حظا في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته .
ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والأكل صح أن تشبه به رغبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب إلهمم وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس وتشبيه سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الانعام ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام كقوله تعالى ( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ) .
والقول في ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) كالقول في قوله ( حتى إذا كنتم في الفلك ) وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء .
وأمر الله : تقديره وتكوينه . وإتيانه : إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء .
وفي معنى الغاية المستفاد من ( حتى ) ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطوارا كثيرة فذلك طوي في معنى ( حتى )