وقرأه الجمهور ( ما تمكرون ) بتاء الخطاب . وقرأه روح عن يعقوب ( ما يمكرون ) بياء الغائب والضمير ل ( الناس ) في قوله ( وإذا أذقنا الناس رحمة ) . وعلى هذه القراءة فالكلام موجه للنبي A .
( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) A E هذه الجملة بدل اشمال من جملة ( وإذا أذقنا الناس رحمة ) إلى آخرها لأن البغي في الأرض اشتمل عليه المكر في آيات الله . والمقصود من هذه الجملة هو قوله ( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض ) وما سواه تمهيد وإدماج للامتنان . أعقب التهديد على كفران النعمة بذكر بعض تعم الله عليهم ثم ضراء تعقب النعمة للابتلاء والتذكير بخالقهم ثم كيف تفرج عنهم رحمة بهم فيكفر فريق منهم كلتا النعمتين ولا يتذكر فكان المقصود أن في ذلك أعظم الآيات على الوحدانية فكيف يقولون ( لولا أنزل عليه آية من ربه ) وفي كل شيء له آية وفي كل ذلك امتنان عليهم بالنعمة وتسجيل لكفرانها ولتوارد الآيات عليهم ولكيلا يغتروا بالإمهال فيحسبوه رضى بكفرهم أو عجزا عن أخذهم وهذا موقع رشيق جد الرشاقة لهذه الآية القرآنية .
وإسناد التسيير إلى الله تعالى باعتبار أنه سببه لأنه خالق إلهام التفكير وقوى الحركة العقلية والجسدية فالإسناد مجاز عقلي فالقصر المفاد من جملة ( هو الذي يسيركم ) قصر ادعائي . والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلالهم بواجب الشكر .
و ( حتى ) ابتدائية وهي غاية للتسيير في البحار خاصة . وإنما كانت غاية باعتبار ما عطف على مدخولها من قوله ( دعوا الله إلى قوله بغير الحق ) والمغيا هم ما في قوله ( يسيركم ) من المنة المؤذنة بأنه تسيير رفق ملائم للناس فكان ما بعد ( حتى ) ومعطوفاتها نهاية ذلك الرفق لأن تلك الحالة التي بعد ( حتى ) ينتهي عندها السير المنعم به ويدخلون في حالة البأساء والضراء وهذا النظم نسج بديع في أفانين الكلام .
ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال ( وجرين بهم ) على طريقة الالتفات أي وجرين بكم . وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى ان قال ( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين فقد أخرج من الخبر من عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلا على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين .
وهذا ضرب من الالتفات لم ينبه عليه أهل المعاني وهو كالتخصيص بطريق الرمز .
وقد عدت هذه الآية من أمثلة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ضمائر الغيبة كلها تبعا للكشاف بناء على جعل ضمائر الخطاب للمشركين وجعل ضمائر الغيبة لهم أيضا وما نحوته أنا أليق .
وابتدئ الإتيان بضمير الغيبة من آخر ذكر النعمة عند قوله ( وجرين بهم بريح طيبة ) للتصريح بأن النعمة شملتهم وللإشارة إلى أن مجيء العاصفة فجأة في حال الفرح مراد منه ابتلاؤهم وتخويفهم . فهو تمهيد لقوله ( وجاءهم الموج من كل مكان ) .
والسير في البر معروف للعرب . وكذلك السير في البحر . كانوا يركبون البحر إلى اليمن وإلى بلاد الحبشة . وكانت لقريش رحلة الشتاء إلى اليمن وقد يركبون البحر لذلك . وقد وصف طرفة بن العبد السفن وسيرها وذكرها عمرو بن كلثوم في معلقته والنابغة في داليته