والفشل : انحطاط القوة وقد تقدم آنفا عند قوله ( ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ) وهو هنا مراد به حقيقة الفشل في خصوص القتال ومدافعة العدو ويصح أن يكون تمثيلا لحال المتقاعس عن القتال بحال من خارت قوته وفشلت أعضاؤه في انعدام إقدامه على العمل . وإنما كان التنازع مفضيا إلى الفشل لأنه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم ويحدث فيهم أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر فيحدث في نفوسهم الاشتغال باتقاء بعضهم بعضا وتوقع عدم إلقاء النصير عند مآزق القتال فيصرف الأمة عن التوجه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم فيتمكن منهم العدو كما قال في سورة آل عمران ( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم ) .
والريح حقيقتها تحرك الهواء وتموجه واستعيرت هنا للغلبة وأحسب أن وجه الشبه في هذه الاستعارة هو أن الريح لا يمانع جريها ولا عملها شيء فشبه بها الغلب والحكم وأنشد ابن عطية لعبيد بن الأبرص : .
كما حميناك يوم النعب من شطب ... والفضل للقوم من ريح ومن عدد وفي الكشاف قال سليك بن السلكة : .
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي ... إلا عبيد قعود بين أذواد .
هل تنظر أن قليلا ريث غفلتهم ... أو تعدوان فإن الريح للعادي وقال الحريري في ديباجة المقامات : " قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه " .
والمعنى : وتزول قوتكم ونفوذ أمركم وذلك لأن التنازع يفضي إلى التفرق وهو يوهن أمر الأمة كما تقدم في معنى الفشل .
ثم أمرهم الله بشيء يعم نفعه المرء في نفسه وفي علاقته مع أصحابه ويسهل عليهم الأمور الأربعة التي أمروا بها آنفا في قوله ( فاثبتوا واذكروا الله كثيرا ) وفي قوله ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا ) الآية : ألا وهو الصبر فقال ( واصبروا ) لأن الصبر هو تحمل المكروه وما شديد على النفس وتلك المأمورات كلها تحتاج إلى تحمل المكاره فالصبر يجمع تحمل الشدائد والمصاعب ولذلك كان قوله ( واصبروا ) بمنزلة التذييل .
وقوله ( إن الله مع الصابرين ) إيماء إلى منفعة للصبر إلهية وهي إعانة الله لمن صبر امتثالا لأمره وهذا مشاهد في تصرفات الحياة كلها .
وجملة ( إن الله مع الصابرين ) قائمة مقام التعليل للأمر لأن حرف التأكيد في مثل هذا قائم مقام فاء التفريع كما تقدم في مواضع .
( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ) جملة ( ولا تكونوا ) معطوفة على ( ولا تنازعوا ) عطف نهي على نهي . ويصح أن تكون معطوفة على جملة ( فاثبتوا ) عطف نهي على أمر إكمالا لأسباب النجاح والفوز عند اللقاء : بأن يتلبسوا بما يدنيهم من النصر وأن يتجنبوا ما يفسد إخلاصهم في الجهاد .
وجيء في نهيهم عن البطر والرثاء بطريقة النهي عن التشبه بالمشركين إدماجا للتشنيع بالمشركين وأحوالهم وتكريها للمسلمين تلك الأحوال لأن الأحوال الذميمة تتضح مذمتها وتنكشف مزيد الانكشاف إذا كانت من أحوال قوم مذمومين عند أخرين وذلك أبلغ في النهي وأكشف لقبح المنهي عنه . ونظيره قوله تعالى ( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) وقد تقدم آنفا . فنهوا عن أن يشبهوا حال المشركين في خروجهم لبدر إذ خرجوا بطرا ورئاء الناس لأن حق كل مسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله والجهاد من أعظم الأعمال الدينية .
والموصول مراد به جماعة خاصة وهم أبو جهل وأصحابه وقد مضى خبر خروجهم إلى بدر فإنهم خرجوا من مكة بقصد حماية عيرهم فلما بلغوا الجحفة جاءهم رسول أبي سفيان وهو كبير العير يخبرهم أن العير قد سلمت فقال أبو جهل " لا نرجع حتى نقدم بدرا نشرب بها وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب حتى يتسامع العرب بأننا غلبنا محمدا وأصحابه " . فعبر عن تجاوزهم الجحفة إلى بدر بالخروج لأنه تكملة لخروجهم من مكة .
وانتصب " بطراورئاء الناس " على الحالية أي بطرين مرائين ووصفهم بالمصدر للمبالغة في تمكن الصفتين منهم لأن البطر والرياء خلقان من خلقهم