ومن عجيب بهتانهم أن الرسول A تحداهم بمعارضة سورة من القرآن فعجزوا عن ذلك وأفحموا ثم اعتذروا بان ما في القرآن أساطير الأولين وأنهم قادرون على الإتيان بمثل ذلك قيل : قائل ذلك هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار كان رجلا من مردة قريش ومن المستهزئين وكان كثير الأسفار إلى الحيرة والى أطراف بلاد العجم في تجارته فكان يلقى بالحيرة ناسا من العباد " بتخفيف الباء اسم طائفة من النصارى " فيحدثونه من أخبار الإنجيل ويلقى من العرب من ينقل أسطورة حروب " رستم " و " اسفندياذ " من ملوك الفرس في قصصهم الخرافي وإنما كانت تلك الأخبار تترجم للعرب باللسان ويستظهرها قصاصهم وأصحاب النوادر منهم ولم يذكر أحد أن تلك الأخبار كانت مكتوبة بالعربية فيما أحسب إلا ما وقع في الكشاف أن النضر بن الحارث جاء بنسخة من خبر " رستم " و " اسفندياذ " ولا يبعد أن يكون بعض تلك الأخبار مكتوبا بالعربية كتبها القصاصون من أهل الحيرة والأنبار تذكرة لأنفسهم وإنما هي أخبار لا حكمة فيها ولا موعظة وقد أطال فيها الفردوسي في كتاب " الشاهنامه " تطويلا مملا على عادة أهل القصص وقال الفخر : اشترى النضر من الحيرة أحاديث كليلة ودمنة وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين فإسناد قول النضر بن الحارث إلى جماعة المشركين : من حيث إنهم كانوا يؤيدونه ويحكونه ويحاكونه ويحسبون فيه معذرة لهم عن العجز الذي تلبسوا به في معارضة القرآن وأنه نفس عليهم بهذه الأغلوطة فإذا كان الذي ابتكره هو النضر بن الحارث فليس يمتنع أن تصدر أمثال هذا القول من أمثاله وأتباعه فمن ضمنهم مجلسه الذي جاء فيه بهذه التراقة .
وقولهم ( لو نشاء لقلنا مثل هذا ) إيهام بأنهم ترفعوا عن معارضته وأنهم لو شاءوا لنقلوا من أساطير الأولين إلى العربية ما يوازي قصص القرآن وهذه وقاحة وإلا فما منعهم أن يشاءوا معارضة من تحداهم وقرعهم بالعجز بقوله ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) مع تحيزهم وتأمرهم في إيجاد معذرة يعتذرون بها عن القرآن وإعجازه إياهم وتحديه لهم وما قاله الوليد بن المغيرة في أمر القرآن .
( والأساطير ) جمع أسطورة " بضم الهمزة " وهي القصة وتقدم عند قوله تعالى ( حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ) في سورة الأنعام .
والمخالفة بين شرط ( لو ) وجوابها إذ جعل شرطها مضارعا والجزاء ماضيا جرى على الاستعمال في ( لو ) غالبا لأنها موضوعة للماضي فلزم أن يكون أحد جزأي جملتها ماضيا أو كلاهما فإذا أريد التفنن خولف بينهما فالتقدير : لو شئنا لقلنا ولا يبعد عندي في مثل هذا التركيب أن يكون احتباكا قائما مقام شرطين وجزاءين فإحدى الجملتين مستقبلة والأخرى ماضية فالتقدير لو نشاء أن نقول نقول ولو شئنا القول في الماضي لقلنا فيه فذلك أوعب للأزمان ويكون هذا هو الفرق بين قوله ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) وقوله ( أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ) فهم لما قالوا ( لو نشاء لقلنا مثل هذا ) ادعوا القدرة على قول مثله في الماضي وفي المستقبل إغراقا في النفاجة والوقاحة .
( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ 32 ] وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون [ 33 ] ) عطف على ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ) أو على ( قالوا قد سمعنا ) وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث صاحب المقالة السابقة وقالها أيضا أبو جهل وإسناد القول إلى جميع المشركين للوجه الذي أسند له قول النضر ( قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ) فارجع اليه وكذلك طريق حكاية كلامهم إنما هو جار على نحو ما قررته هنالك من حكاية المعنى .
وكلامهم هذا جار مجرى القسم وذلك أنهم يقسمون بطريقة الدعاء على أنفسهم إذا كان ما حصل في الوجود على خلاف ما يحكونه أو يعتقدونه وهم يحسبون أن دعوة المرء على نفسه مستجابة وهذه طريقة شهيرة في كلامهم قال النابغة .
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي وقال معدان بن جواس الكندي أو حجية بن المضرب السكوني