وان التمثيل والتنظير في الحسن والقبيح أثرا عظيما في حث النفس على التشبيه أو التجنب وهذا كقوله تعالى ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ) وسيأتي وأصحاب هذه الصلة معروفون عند المؤمنين بمشاهدتهم وبإخبار القرآن عنهم فقد عرفوا ذلك من المشركين من قبل قال تعالى ( وإذا تتلى عليهم آيتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ) قال ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة ) وعن ابن عباس أن المراد بهم نفر من قريش وهم بنو عبد الدار بن قصي كانوا يقولون : نحن صم بكم عما جاء به محمد فلم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة وبقيتهم قتلوا جميعا في أحد وكانوا أصحاب اللواء في الجاهلية ولكن هؤلاء لم يقولوا سمعنا بل قالوا نحن صم بكم فلا يصح أن يكونوا هم المراد بهذه الآية بل المراد طوائف من المشركين وقيل المراد بهم اليهود وقد عرفوا بهذه المقالة واجهوا بها النبي A قال تعالى ( ويقولون سمعنا وعصينا ) وقيل أريد المنافقون قال تعالى ( ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ) وإنما يقولون سمعنا لقصد إيهام الانتفاع بما سمعوا لأن السمع يكنى به عن الانتفاع بالمسموع وهو مضمون ما حكي عنهم من قولهم ( طاعة ) ولذلك نفي عنهم السمع بهذا المعنى بقوله ( وهم لا يسمعون ) أي لا ينتفعون بما سمعوه فالمعنى هو معنى السمع الذي أرادوه بقولهم ( سمعنا ) وهو إيهامهم أنهم مطيعون فالواو في قوله ( وهم لا يسمعون ) واو الحال .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاهتمام به ليتقرر مفهومه في ذهن السامع فيرسخ اتصافه بمفهوم المسند وهو انتفاء السمع عنهم على ان المقصود الأهم من قوله ( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) هو التعريض بأهل هذه الصلة من الكافرين أو المنافقين لا خشية وقوع المؤمنين في مثل ذلك .
وصيغ فعل ( لا يسمعون ) بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون على عدم السمع فلذلك لم يقل وهم لم يسمعوا .
وجملة ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) معترضة وسوقها في هذا الموضع تعريض بالذين ( قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) بأنهم يشبهون دواب صماء بكماء .
والتعريض قد يكون كناية " وليس من أصنافها فان بينه وبين الكناية عموما وخصوصا وجهيا لان التعريض كلام أريد به لازم مدلوله وأما الكناية فهي لفظ مفرد يراد به لازم معناه أما الحقيقي كقوله تعالى ( وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) وأما المجازي نحو قولهم للجواد : جبان الكلب إذا لم يكن له كلب فأما التعريض فليس إرادة لازم معنى لفظ مفرد ولا لازم معنى التركيب وإنما هو إرادة لنطق المتكلم بكلامه قال في الكشاف عند قوله تعالى ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ) " في سورة البقرة " التعريض أن تذكر شيئا يدل به على شيء لم تذكره يريد أن تذكر كلاما دالا كما يقول المحتاج لغيره جئت لأسلم عليك قلت ومن أمثلة التعريض قول القائل حين يسمع رجلا يسب مسلما أو يضربه المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده فكذلك قوله تعالى ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم ) لم يرد به لازم معنى ألفاظ ولا لازم معنى الكلام ولكن أريد به لازم النطق به في ذلك المكان بدون مقتض للأخبار من حقيقة ولا مجاز ولا تمثيل .
والفرق بين التعريض وبين ضرب المثل : أن ضرب المثل ذكر كلام يدل على تشبيه هيئة مضربه بهيئة مورده والتعريض ليس فيه تشبيه هيئة بهيئة . فالتعريض كلام مستعمل في حقيقته أو مجازه ويحصل به قصد التعريض من قرينة سوقه فالتعريض من مستتبعات التراكيب .
وهذه الآية تعريض بتشبيههم بالدواب فإن الدواب ضعيفة الإدراك فإذا كانت صماء كانت مثلا في انتفاء الإدراك وإذا كانت مع ذلك بكما انعدم منها ما انعدم منها ما يعرف به صاحبها ما بها فانضم عدم الإفهام إلى عدم الفهم فقوله ( الصم البكم ) خبران عن الدواب بمعناهما الحقيقي وقوله ( الذين لا يعقلون ) خبر ثالث وهذا عدول عن التشبيه إلى التوصيف لأن ( الذين ) مما يناسب المشبهين إذ هو اسم موصول بضيعة جمع العقلاء وهذا تخلص إلى أحوال المشبهين كما تخلص طرفة في قوله .
خذول تراعي ربربا بخميلة ... تناول أطراف البرير وترتدي