فأمر الله بدفع وسوسة الشيطان بالعوذ بالله والعوذ بالله هو الالتجاء إليه بالدعاء بالعصمة أو استحضار ما حدده الله له من حدود الشريعة وهذا أمر لرسول الله A على الالتجاء إلى الله فيما عسر عليه فان ذلك شكر على نعمة الرسالة والعصمة فان العصمة من الذنوب حاصلة له ولكنه يشكر الله بإظهار الحاجة إليه لإدامتها عليه وهذا مثل استغفار الرسول E في قوله في حديث صحيح مسلم " إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة " . فالشيطان لا ييأس من إلقاء الوسوسة للأنبياء لأنها تنبعث عنه بطبعه وإنما يترصد لهم مواقع خفاء مقصده طمعا في زلة تصدر عن أحدهم وإن كان قد علم أنه لا يستطيع إغواءهم ولكنه لا يفارق رجاء حملهم على التقصير في مراتبهم ولكنه إذا ما هم بالوسوسة شعروا بها فدفعوها ولذلك علم الله رسوله E الاستعانة على دفعها بالله تعالى . روى الدار قطني أن النبي A قال " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وأنت يا رسول الله قال " وأنا ولكن الله أعانني عليه فأسلم : روي قوله " فأسلم " بفتح الميم بصيغة الماضي والهمزة أصلية : صار الشيطان المقارن له مسلما وهي خصوصية للنبي A وروي بضم الميم بصيغة المضارع والهمزة للمتكلم أي فأنا أسلم من وسوسته وأحسب أن سبب الاختلاف في الرواية أن النبي A نطق به موقوفا عليه . وهذا الأمر شامل للمؤمنين وحظ المؤمنين منه أقوى لأن نزغ الشيطان إياهم أكثر فان النبي A مؤيد بالعصمة فليس للشيطان عليه سبيل .
وجملة ( إنه سميع عليم ) في موقع العلة للأمر بالاستعاذة من الشيطان بالله على ما هو شأن حرف ( إن ) إذا جاء في غير مقام دفع الشك أو الإنكار فإن الرسول A لا ينكر ذلك ولا يتردد فيه والمراد . التعليل بلازم هذا الخبر وهو عوذه مما استعاذه منه أي : أمرناك بذلك لأن ذلك يعصمك من وسوسته لأن الله سميع عليم .
و ( السميع ) : العالم بالمسموعات وهو مراد منه معناه الكنائي أي عليم بدعائك مستجيب قابل للدعوة كقول أبي ذؤيب : .
دعاني إليها القلب إني لامره ... سميع فما أدري أرشد طلابها أي ممتثل فوصف ( سميع ) كناية عن وعد بالإجابة .
وإتباعه بوصف ( عليم ) زيادة في الإخبار بعموم علمه تعالى بالأحوال كلها لأن وصف ( سميع ) دل على أنه يعلم استعاذة الرسول E ثم أتبعه بما يدل على عموم العلم وللإشارة إلى أن الرسول A بمحل عناية الله تعالى فهو يعلم ما يريد به الشيطان عدوه وهذا كناية عن دفاع الله عن رسوله كقوله ( فإنك بأعيننا ) وأن أمره بالاستعاذة وقوف عند الأدب والشكر وإظهار الحاجة إلى الله تعالى .
( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ 201 ] ) هذا تأكيد وتقرير للأمر بالاستعاذة من الشيطان فتتنزل جملة ( إن الذين اتقوا ) إلى آخرها منزلة التعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان إذا جس بنزغ الشيطان ولذلك افتتحت بان التي هي لمجرد الاهتمام لا لرد تردد أو إنكار كما افتتحت بها سابقتها في قوله انه سميع عليم فيكون الأمر بالاستعاذة حينئذ قد علل بعلتين أولاهما أن الاستعاذة بالله منجاة للرسول E من نزغ الشيطان والثانية أن في الاستعاذة بالله من الشيطان تذكرا الواجب مجاهدة الشيطان والتيقظ لكيده وأن ذلك التيقظ سنة المتقين فالرسول E مأمور بمجاهدة الشيطان : لأنه متق ولأنه يبتهج بمتابعة سيرة سلقه من المتقين كما قال تعالى ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده ) وقد جاءت العلة هنا أعم من المعلل : لأن التذكر أعم من الاستعاذة .
ولعل الله ادخر خصوصية الاستعاذة لهذه الأمة فكثر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان وكثر ذلك في أقوال النبي A وجعل للذين قبلهم بالتذكر كما ادخر لنا يوم الجمعة .
و ( التقوى ) تقدم بيانها عند قوله تعالى ( هدى للمتقين ) في سورة البقرة والمراد بهم : الرسل وصالحوا أممهم لأنه أريد جعلهم قدوة وأسوة حسنة .
A E