خامسها : أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرع إلى ذلك وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازية إلى غيره . وكان الأصمعي لا يفسر كلمة من العربية إذا كانت واقعة في القرآن ذكر ذلك في المزهر فأبى أن يتكلم في أن سرى وأسرى بمعنى واحد لأن أسرى ذكرت في القرآن ولا في أن عصفت الريح وأعصفت بمعنى واحد لأنها في القرآن وقال : الذي سمعته في معنى الخليل أنه أصفى المودة وأصمها ولا أزيد فيه شيئا لأنه في القرآن اه .
فهذا ضرب من الورع يعتري بعض الناس لخوف وأنه قد يعتري كثيرا من أهل العلم والفضل وربما تطرق إلى بعضهم في بعض أنواع الأحوال دون بعض فتجد من يعتريه ذلك في العلم ولا يعتريه في العقل وقد تجد العكس والحق أن الله ما كلفنا في غير أصول الاعتقاد بأكثر من حصول الظن المستند إلى الأدلة والأدلة متنوعة على حسب أنواع المستند فيه وأدلة فهم الكلام معروفة وقد بيناها .
أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر فإن أرادوا به ما روى عن النبي A من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير وغلطوا سلفهم فيما تأولوه إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي A . وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي A وإن أرادوا بالمأثور ما روى عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع وقد ثبت عنه أنه قال : ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله . وما يروي عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة . وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروي عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته . وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروي عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود فقد أخذوا يفتحون الباب من شقه ويقربون ما بعد من الشقة إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم تأولوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين لكنه لا يلبث في كل آية ان يتخطى ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج وقد سبقه إليه بقي ابن مخلد ولم نقف على تفسيره وشاكل الطبري فيه معاصروه مثل ابن حاتم وابن مردويه والحاكم فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين والزجاج والرماني ممن بعدهم ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية .
A E