وقوله ( قل لا أشهد ) جواب للاستفهام الذي في قوله ( أإنكم لتشهدون ) لأنه بتقدير : قل أإنكم ووقعت المبادرة بالجواب بتبرئ المتكلم من أن يشهد بذلك لأن جواب المخاطبين عن هذا السؤال معلوم من حالهم أنهم مقرون به فأعرض عنهم بعد سؤالهم كأنه يقول : دعنا من شهادتكم وخذوا شهادتي فإني لا أشهد بذلك .
ونظير هذا قوله تعالى ( فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) .
وجملة ( قل إنما هو إله واحد ) بيان لجملة ( لا أشهد ) فلذلك فصلت لأنها بمنزلة عطف البيان لأن معنى لا أشهد بأن معه آلهة هو معنى أنه إله واحد وأعيد فعل القول لتأكيد التبليغ .
وكلمة ( إنما ) أفادت الحصر أي هو المخصوص بالوحدانية . ثم بالغ في إثبات ذلك بالتبرئ من ضده بقوله ( وإنني بريء مما تشركون ) . وفيه قطع للمجادلة معهم على طريقة المتاركة .
و ( ما ) في قوله ( مما تشركون ) يجوز كونها مصدرية أي من إشراككم . ويجوز كونها موصولة وهو الأظهر أي من أصنامكم التي تشركون بها وفيه حذف العائد المجرور لأن حرف الجر المحذوف مع العائد متعين تقديره بلا لبس وذلك هو ضابط جواز حذف العائد المجرور كقوله تعالى ( أنسجد لما تأمرنا ) أي بتعظيمه وقوله تعالى ( فاصدع بما تؤمر ) أي بالجهر به . وظاهر كلام التسهيل أن هذا ممنوع وهو غفلة من مؤلفه اغتر بها بعض شراح كتبه .
( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه وكما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون [ 20 ] ) جملة مستأنفة انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسول A إلى إخبار عام كسائر أخبار القرآن . أظهر الله دليلا على صدق الرسول فيما جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله ( قل الله شهيد بيني وبينكم ) فإنه لما جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمن صدق من جاء به لأنه هو الآية المعجزة العامة الدائمة . وقد علمت آنفا أن الواحدي ذكر أن رؤساء المشركين قالوا للنبي A قد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره ؛ فإذا كان كذلك كان التعرض لأهل الكتاب هنا إبطالا لما قالوه أنه ليس عندهم ذكر النبي ولا صفته أي فهم وأنتم سواء في جحد الحق وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعين أن تجعل المراد ب ( الذين آتيناهم الكتاب ) بعض أهل الكتاب وهم المنصفون منهم مثل عبدالله بن سلام ومخيريق فقد كان المشركون يقدرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحة الدين موثوقا بها عندهم إذا أدوها ولم يكتموها . وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس .
فالضمير المنصوب في قوله ( يعرفونه ) عائد إلى القرآن الذي في قوله ( وأوحي إلي هذا القرآن ) . والمراد أنهم يعرفون أنه من عند الله ويعرفون ما تضمنه مما أخبرت به كتبهم ومن ذلك رسالة من جاء به وهو محمد A لما في كتبهم من البشارة به . والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى كقوله تعالى ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) .
والتشبيه في قوله ( كما يعرفون أبناءهم ) تشبيه المعرفة بالمعرفة . فوجه الشبه هو التحقق والجزم بأنه هو الكتاب الموعود به وإنما جعلت المعرفة المشبه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضل عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنه هو ابنه المعروف وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفا .
وقيل : إن ضمير ( يعرفونه ) عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله ( إنما هو إله واحد ) وهذا بعيد . وقيل : الضمير عائد إلى النبي A مع أنه لم يجر له ذكر فيما تقدم صريحا ولا تأويلا . ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول A وهو غير مناسب على أن في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجة وهي القرآن .
A E