وجعل الله الاستقسام فسقا لأن منه ما هو مقامرة وفيه ما هو من شرائع الشرك لتطلب المسببات من غير أسبابها إذ ليس الاستقسام سببا عاديا مضبوطا ولا سببا شرعيا فتمحض لأن يكون افتراء مع أن ما فيه من توهم الناس إياه كاشفا عن مراد الله بهم من الكذب على الله لأن الله نصب لمعرفة المسببات أسبابا عقلية : هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل أو من أدلته كالتجربة وجعل أسبابا لا تعرف سببيتها إلا بتوقيف منه على لسان الرسل : كجعل الزوال سببا للصلاة . وما عدا ذلك كذب وبهتان فمن أجل ذلك كان فسقا ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادعاء معرفة الغيوب .
وليس من ذلك تعرف المسببات من أسبابها كتعرف نزول المطر من السحاب وترقب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدة الحضانة وفي الحديث " إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة " أي من جهة بحرهم ومعنى " عين " أنها كثيرة المطر .
وأما أزلام الميسر فهي فسق لأنها من أكل المال بالباطل ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) جملة وقعت معترضة بين آية المحرمات المتقدمة وبين آية الرخصة الآتية : وهي قوله ( فمن اضطر في مخمصة ) لأن اقتران الآية بفاء الفريع يقضي باتصالها بما تقدمها . ولا يصلح للاتصال بها إلا قوله ( حرمت عليكم الميتة ) الآية .
والمناسبة في هذا الاعتراض : هي أن الله لما حرم أمورا كان فعلها من جملة دين الشرك وهي ما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب وتحريم الاستقسام بالأزلام وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم والتقليل من أقواتهم أعقب هذه الشدة بإيناسهم بتذكير أن هذا كله إكمال لدينهم وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية وأنهم كما أيدوا بدين عظيم سمح فيه صلاحهم فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدة الراجعة إلى إصلاحهم : فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية والبعض مصلحته راجعة إلى الترفع عن حضيض الكفر : وهو ما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب . والاستقسام بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم وبمحاسن دينهم وإكماله فإن من إكمال الإصلاح إجراء الشدة عند الاقتضاء . وذكروا بالنعمة على عادة القرآن في تعقيب الشدة باللين . وكان المشركون زمانا إذا سمعوا أحكام الإسلام رجوا أن تثقل على المسلمين فيرتدوا عن الدين ويرجعوا إلى الشرك كما قال المنافقون " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " . فلما نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية : بشارة للمؤمنين ونكاية بالمشركين . وقد روي : أنها نزلت يوم فتح مكة كما رواه الطبري عن مجاهد والقرطبي عن الضحاك . وقيل : نزلت يوم عرفة في حجة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع ونسبه ابن عطية إلى عمر بن الخطاب وهو الأصح .
ف ( اليوم ) يجوز أن يراد به اليوم الحاضر وهو يوم نزول الآية وهو إن أريد به يوم فتح مكة فلا جرم أن ذلك اليوم كان أبهج أيام الإسلام وظهر فيه من قوة الدين بين ظهراني من بقي على الشرك ما أيأسهم من تقهقر أمر الإسلام ولا شك أن قلوب جميع العرب كانت متعلقة بمكة وموسم الحج ومناسكه : التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية وقوام شؤونهم وتعارفهم وفصل نزاعهم فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعا لبقية آمالهم : من بقاء دين الشرك ومن محاولة الفت في عضد الإسلام . فذلك اليوم على الحقيقة : يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة . فقد قال أبو سفيان يوم أحد " اعل هبل وقال لنا العزى ولا عزى لكم " . وقال صفوان بن أمية أو أخوه يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة للمسلمين : " ألا بطل السحر اليوم " .
وكان نزول هذه الآية يوم حجة الوداع مع الآية التي بعدها كما يؤيده قول رسول الله A في خطبته يومئذ في قول كثير من أصحاب السير " أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم " .
A E