من لم يتغن بالقرآن .
وقول الله تعالى { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } .
حدثنا يحيى بن بكير : ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرنى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه كان يقول : قال رسول الله ؟ .
[ لم يأذن الله لشىء ما أذن لنبى يتغنى بالقرآن ] وقال صاحب له : يريد يجهر به فرد من هذا الوجه ثم رواه عن على بن عبدالله بن المدينى عن سفيان بن عيينة عن الزهرى به قال سفيان : تفسيره يستغنى به .
وقد أخرجه مسلم والنسائى من حديث سفيان بن عيينه به ومعناه أن الله تعالى ما استمع لشىء كاستماعه لقراءة نبى يجهر بقراءته ويحسنها وذلك أنه يجتمع فى قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية وذلك هو الغاية فى ذلك وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم كما قالت عائشة رضى الله عنها : سبحان الذى وسع سمعه الأصوات ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم كما قال تعالى { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } الآية ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم ومنهم من فسرالاذن ههنا بالأمر والأول أولى لقوله : .
[ ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى يتغنى بالقرآن ] أى يجهر والاذن الاستماع لدلالة السياق عليه وكما قال تعالى { إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت * وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت * وأذنت لربها وحقت } أى استمعت لربها وحقت أى وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه فالاذن ههنا هو الاستماع ولهذا جاء فى حديث رواه ابن ماجه بسند جيدعن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله A : [ لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلي قينته ] .
وقول سفيان بن عيينة أن المراد بالتغنى به فان أرادأنه يستغنى به عن الدنيا وهو الظاهرمن كلامه الذي تابعه عليه أبوعبيدالقاسم بن سلام وغيره فخلاف الظاهر من مراد الحديث لأنه قد فسر بعض رواته بالجهر وهوتحسين القراءة والتحزين بها قال حرملة سمعت ابن عيينة يقول معناه يستغنى به فقال لى الشافعى ليس هو هكذا ولو كان هكذا لكان يتغانى إنما هو يتحزن ويترنم به قال حرملة وسمعت ابن وهب يقول : يترنم به وهكذا نقل المزنى والربيع عن الشافعى C .
وعلى هذا فتصدير البخارى الباب بقوله تعالى { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } فيه نظر لأن هذه الآية ذكرت ردا على الذين سألو آيات تدل على صدقه حيث قال { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } الآية ومعنى ذلك أو لم يكفهم آية دالة على صدقك إنزالنا القرآن عليك وأنت رجل أمي { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } أى وقد جئت فيه بخبر الأولين والآخرين فأين هذا من التغنى بالقرآن وهو تحسين الصوت به أو الاستغناء به عما عداه من أمور الدنيا ؟ فعلى كل تقدير تصدير الباب بهذه الآية فيه نظر .
فصل .
فى إيراد أحاديث فى معنى الباب وذكر أحكام التلاوة بالأصوات .
قال أبو عبيد : حدثنا عبدالله بن صالح عن قباث بن رزين عن على بن رباح اللخمى عن عقبة بن عامر قال : خرج علينا رسول الله A يوما ونحن فى المسجد نتدارس القرآن قال : .
[ تعلموا كتاب الله واقتنوه - قال : وحسبت أنه قال وتغنوا به - فوالذى نفسى بيده لهو اشد تفلتا من المخاض العقل ] وحدثنا عبدالله بن صالح عن موسى بن على عن أبيه عن عقبة عن رسول الله A مثل ذلك إلا أنه قال : .
[ واقتنوه وتغنوا به ] ولم يشك .
وهكذا رواه النسائى فى كتاب فضائل القرآن من حديث موسى بن على عن أبيه به ومن حديث عبدالله بن يزيد المقرى عن قباث بن رزين عن على ابن رباح عن عقبة - وفى بعض ألفاظه : [ خرج علينا ونحن نقرأ القرآن فسلم علينا وذكرالحديث ففيه دلالة على السلام على القارىء ] وقال أبو عبيد : ثنا أبو اليمان عن أبى بكر بن عبدالله بن أبى مريم المهاجر ابن حبيب قال : قال رسول الله A : [ يا أهل القرآن لا توسدوا القرآن واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار وتغنوه وتقنوه واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون ] وهذا مرسل ثم قال أبو عبيد : قوله تغنوه أى اجعلوه غناءكم من الفقر ولاتعدوا الإقلال معه فقرا وقوله وتقنوه يقول : اقتنوه كما تقتنوا الأموال إجعلوه ما لكم .
وقال أبوعبيد : حدثنى هشام بن عمار بن يحيى بن حمرة عن الأوزاعى قال : حدثنى إسماعيل بن عبيد الله بن أبى المهاجر عن فضالة بن عبيد عن النبى A قال : [ لله أشد أذنا الى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ] .
قال أبو عبيد : هذا الحديث بعضهم يزيد فى إسناده يقول عن إسماعيل عبيد الل ه عن مولى فضالة عن فضالة وهكذا رواه ابن ماجة عن راشد سعيد بن أبى راشد عن الوليد عن الأوزاعى عن إسماعيل بن عبيد الله عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة عن النبى A : [ لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرأن من صاحب القينة إلى قينته ] .
قال أبو عبيد : يعنى الاستماع وقوله فى الحديث الاخر [ ما أذن الله لشىء ] أى ما استمع .
وقال أبو القاسم البغوى : حدثنا محمد بن حميد ثنا سلمة بن الفضل ثنا عبدالله بن عبدالرحمن بن أبى مليكة حدثنا القاسم بن محمد حدثنى السائب قال : [ قال لى سعد : يا ابن أخى هل قرأت القرآن ؟ قلت : نعم قال : غن به فإنى سمعت رسول الله A يقول : غنوا بالقرآن ليس منا من لم يغن بالقرآن وابكوا فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا ] .
وقد روى أبو داود من حديث الليث عن عبدالله بن أبى مليكة عن عبدالله بن أبى نهيك عن سعد بن أبى وقاص قال : قال رسول الله A : .
[ إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكو فتباكوا وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا ] وفى الحديث كلام طويل يتعلق بسنده ليس هذا موضعه والله أعلم .
وقال أبو داود : ثنا عبد الأعلى بن حماد ثنا عبدالجبار بن الورد قال : [ سمعت ابن أبى مليكة يقول : قال عبيد الله بن أبى زيد : مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه فإذا رجل رث البيت رث الهيئة ( فانتسبنا له فقال : تجار كسبة ) فسمعته يقول : سمعت رسول الله A يقول : ليس منا من لم يتغن بالقرآن ] قال : فقلت لابن أبى مليكة يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال : يحسنه ما استطاع تفرد به أبو داود فقد فهم من هذا أن السلف رضى الله عنهم إنما فهموا من التغنى بالقرآن إنما هو تحسين الصوت به وتحزينه كما قال الأئمة رحمهم الله ويدل على ذلك أيضا ما رواه أبو داود حيث قال : ثنا عثمان بن أبى شيبة ثنا جرير عن الأعمش عن طلحة عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال قال رسول الله A : [ زينوا القرآن بأصواتكم ] .
وأخرجه النسائى وأبن ماجة من حديث شعبة عن طلحة وهذا اسناد جيد وقد وثق النسائى وابن حبان عبدالرحمن بن عوسجة هذا ونقل الأزدى عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال : سألت عنه بالمدينة فلم يحمدونه .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث [ زينوا القرآن بأصواتكم ] قال أبو عبيد : وانما كره أيوب فيما نرى أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله A فى الألحان المبتدعة فلهذا نهاه أن يحدث به ( قلت ) : ثم إن شعبة C روى الحديث متوكلا على الله كما روى له وولو ترك كل حديث يتأوله مبطل لترك من السنة شيء كثير بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة من القرآن وحملوها على محاملها الشرعية المرادة وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله والمراد تحسين الصوت بالقرآن تطريبه وتحزينه والتخشع به كما رواه الحافظ الكبير تقى بن مخلد C حيث قال : ثنا أحمد بن ابراهيم عن أبى موسى عن أبيه قال : [ قال لى رسول الله A ذات يوم : يا أبا موسى لو رأيتنى وأنا أستمع قراءتك البارحة قلت أما والله لو علمت آنك تسمع قراءتى لحبرتها لك تحبيرا ] .
رواه مسلم من حديث طلحة به وزاد [ لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ] وسيأتى هذا فى - بابه حيث يذكره البخارى والغرض أن أبا موسى قال : لو أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرا فدل على جواز تعاطى ذلك وتكلفه وقد كان أبو موسى كما قال عليه السلام : قد أعطى صوتا حسنا - كما سأذكره إن شاء الله - مع خشية تامة ورقة أهل اليمن فدل على أن هذامن الأمور الشرعية قال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أبى سلمة قال : كان عمر إذا رأى أبا موسى قال : ذكرنا ربنا يا أبا موسى فيقرأ عنده قال أبو عبيد : ثنا سليمان التيمى أو نبئت عنه ثنا أبو عثمان النهدى كان أبو موسى يصلى بنا فلو قلت أنى لم أسمع صوت صنج قط ولايربط قط ولاشيئا قط أحسن من صوته .
وقال ابن ماجه : حدثنا العباس بن الدمشقى ثنا الوليد بن مسلم حدثنى حنظلة بن أبى سفيان أنه سمع عبدالرحمن بن سابط الجمحي يحدث عن عائشة قالت : [ ابطأت على رسول الله ليلة بعدالعشاء ثم جئت فقال : أين كنت ؟ قلت : كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك مثل قراءته وصوته من أحد قالت : فقام فقمت معه حتى أستمع له ثم التفت إلى فقال : هذا سالم مولى أبى حذيفة الحمد لله الذى جعل فى أمتى مثل هذا ] إسناد جيد وفى الصحيحين عن جبير بن مطعم قال : [ سمعت رسول الله A يقرأ فى المغرب بالطور فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه وفىبعض ألفاظه فلما بلغ هذه الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون } كاد قلبى أن يطير وكان جبير لما سمع هذا بعد مشركا على دين قومه وإنما كان قدم فى فداء الأساري بعد بدر وناهيك بمن تؤثر قراءته فى المشرك المصر على الكفر هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءات ما كان عن خشوع القلب كما قال قال أبو عبيد : ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ليث عن طاوس قال : أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاهم لله وحدثنا قبيصة عن سفيان عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه وعن الحسن بن مسلم عن طاوس قال : سئل رسول الله A أى الناس أحسن صوتا بالقرآن ؟ فقال : الذى إذا سمعته رأيته يخشى الله ] .
وقد روى هذا متصلا من وجه آخر فقال ابن ماجه حدثنا بشر بن معاذ الضرير ثنا عبدالله بن جعفر المدينى ثنا ابراهيم بن اسماعيل بن مجمع عن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله A : [ ان من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذى إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله ] ولكن عبدالله بن جعفر هذا - وهو والد على بن المدينى - وشيخه ضعيفان والله أعلم والغرض أن المطلوب شرعا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والإنقياد للطاعة فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائى فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك فى أدائه هذا المذهب وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك كما قال الإمام العلم عبيد القاسم بن سلام C حدثنا نعيم بن حماد عن بقية ابن الوليد عن حصين بن مالك الفزارى قال سمعت شيخا يكنى أبا محمد يحدث عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله A : [ اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر وسيجىء قوم من بعدى بالقرآن يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لايجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم ] .
وحدثنا يزيد عن شريك عن أبى اليقظان عثمان بن عمير زاذان أبي عمر عن عليم قال : [ كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبى A قال يزيد لا أعلمه الا قال عابس الغفارى فرأى الناس يخرجون فى الطاعون قال : ما هولاء ؟ قال يفرون من الطاعون فقال يا طاعون خذني فقالوا أتتمنى الموت وقد سمعت رسول الله A يقول : لايتمنين أحدكم الموت فقال : إنى أبادر خصالا سمعت رسول الله A يتخوفهن على أمته بيع الحكم والاستخفاف بالدم وقطيعة الرحم وقوم يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بافقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء وذكر خلتين آخرتين ] وحدثنا يعقوب بن إبراهيم عن ليث بن أبى سليم عن عثمان بن عمير عن زاذان عن عابس الغفارى عن النبى A مثل ذلك أو نحوه وحدثنا يعقوب عن ابراهيم عن الأعمش عن رجل عن أنس أنه سمع رجلا يقرأالقرآن .
بهذه الألحان التى أحدث الناس فأنكر .
ذلك ونهى عنه وهذه طرق حسنة .
باب الترهيب وهذا يدل على أنه محذور كبير وهو قراءة القرآن بالألحان التى يسلك بها مذاهب الغناء وقد نص الأئمة رحمهم الله على النهى عنه فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذى يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا فقد اتفق العلماء على تحريمه والله أعلم .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : ثنا محمد بن معمر ثنا روح ثنا عبيدالله بن الأخنس عن ابن أبى مليكة عن ابن عباس قال : قال رسول الله A .
[ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ] ثم قال : إنما ذكرنا هذا لتبيين الاختلاف على ابن أبى مليكة فيه فرواه عبدالجبار بن الورد عنه عن ابن أبى مليكة عن أبى لبابة ورواه عمرو بن دينار والليث عنه عن أبى نهيك عن سعد ورواه عسل بن سفيان عنه عن عائشة ورواه نافع مولى ابن عمر عنه عن ابن الزبير