بسم الله الرحمن الرحيم .
السنة هي الأصل الثاني بعد كتاب الله تعالى في استنباط الأحكام الشرعية وعليه إجماع الأمة . . وقد أثير لغط حول أمرين : .
أولهما : مدى اعتماد أبي حنيفة على السنة .
والثاني : مقدار الأحاديث التي استدل بها أبو حنيفة .
أما مدى اعتماد الإمام على السنة فنتبينه من خلال منهجه في الاستنباط وشروط قبول الأخبار عنده . . ومن أصوله C تعالى : .
- 1 - قبول مرسلات الثقات إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها والاحتجاج بالمرسل كان سنة متوارثة جرت عليه الأمة في القرون الفاضلة حتى قال ابن جرير : رد المرسل مطلقا بدعة حدثت في رأس المائتين .
- 2 - ومن أصوله عرض أخبار الآحاد على الأصول المجتمعة عنده بعد استقرائه موارد الشرع فإذا خالف خبر الآحاد تلك الأصول يأخذ بالأصل عملا بأقوى الدليلين ويعد الخبر المخالف له شاذا . وليس في ذلك مخالفة للخبر الصحيح وإنما فيه مخالفة لخبر بدت علة فيه للمجتهد . وصحة الخبر فرع خلوه من العلل القادحة عند المجتهد .
- 3 - ومن أصوله : عرض أخبار الآحاد على عمومات الكتاب وظواهره فإذا خالف الخبر عاما أو ظاهرا في الكتاب أخذ بالكتاب وترك الخبر عملا بأقوى الدليلين لأن الكتاب قطعي الثبوت وظواهره وعموماته قطعية الدلالة عنده .
أما إذا لم يخالف الخبر عاما أو ظاهرا في الكتاب بل كان بيانا لمجمل فيه فيأخذ به حيث لا دلالة فيه بدون بيان .
- 4 - ومن أصوله في الأخذ بخبر الآحاد : أن لا يخالف السنة المشهورة سواء أكانت سنة فعلية أو قولية عملا بأقوى الدليلين .
- 5 - ومن أصوله أن لا يعارض خبر مثله وعند التعارض يرجح أحد الخبرين على الآخر بوجوه ترجيح تختلف أنظار المجتهدين فيها ككون أحد الراويين فقيها أو أفقه بخلاف الآخر .
- 6 - ومن أصوله أن لا يعمل الراوي بخلاف خبره كحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا فإنه مخالف لفتيا أبي هريرة فترك أبو حنيفة العمل به لتلك العلة .
- 7 - ومن أصوله . رد الزائد - متنا كان أو سندا - إلى الناقص احتياطا في دين الله تعالى .
- 8 - ومن أصوله : عدم الأخذ بخبر الآحاد فيما تعم به البلوى - أي فيما يحتاج إليه الجميع حاجة متأكدة مع كثرة تكرره - فلا يكون طريق ثبوت ذلك غير الشهرة أو التواتر ويدخل في ذلك الحدود والكفارات التي تدرأ بالشبهة .
- 9 - ومن أصوله : أن لا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه أحدهم .
- 10 - ومنها استمرار حفظ الراوي لمرويه من آن التحمل إلى آن الأداء من غير تخلل نسيان .
- 11 - ومنها عدم مخالفة - الخبر للعمل المتوارث بين الصحابة والتابعين وبمقتضى هذه القواعد ترك الإمام أبو حنيفة C العمل بأحاديث كثيرة من الآحاد .
والحق أنه لم يخالف الأحاديث عنادا بل خالفها اجتهادا لحجج واضحة ودلائل صالحة وله بتقدير الخطأ أجر وبتقدير الإصابة أجران ( 1 ) .
هذا وأما مقدار الأحاديث التي استدل بها في مذهبه . . فالجواب عليه ما ثبت في المسانيد الخمس عشرة المنسوبة إليه . . بل ومضافا إليها من الأحاديث والآثار الثابتة في السند المتصل وهي بالآلاف والتي تصدى لجمعها في وقت مبكر غير واحد من العلماء والذي وصلنا منها ما جمعه الطحاوي في معاني الآثار ومشكل الآثار وهو من الفقهاء المتقدمين رتبة وتاريخا في المذهب وما جمعه أخيرا السيد محمد مرتضى الزبيدي في كتابه الموسوم ب ( عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة مما وافق فيه الأئمة الستة أو أحدهم ) والذي جاء في مقدمته : ما نصه : قصدت بهذا التألبف الرد على بعض المتعصبين ممن اعتسف عن واضح المشارع ونسب إلى إمامنا أنه يقدم القياس على النص الثابت عن الشارع ولعمري هذه النسبة إليه غير صحيحة فإن الصحيح المنقول في مذهبه تقديم النص على القياس ( 2 ) .
والمقصود بالنص هنا هو الحديث الشريف بالجملة . . وإن كان عبارة النص تشمل الآية الكريمة عند العلماء . . وقد أجمعوا على أن القرآن مقدم على ما سواه .
ولكن لماذا سيقت التهمة في مواجهة الإمام أبي حنيفة .
يجيب الزبيدي قائلا : إن مذاهب الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم منسوجة من الشريعة المطهرة سداها ولحمتها لا سيما مذهب إمامنا الأعظم لكن وجوه استنباطه تدق عن إدراك عقول طلبة العلم وما يوجد في بعضها مما يخالف ظاهر الأحاديث فهو بالنسبة إلى مدارك أفهامنا وإلا فقد صح عنده من قوله صلى الله عليه وسلّم أو فعله أو من آثار الصحابة ما قام عنده بمقام اليقين وجعله حجة ثم أيده بالنظر فيه والاستكشاف لما يعارضه ويخالفه .
ولا يقول عاقل إن الإمام Bه يجد في مسألة نصا عن الشارع ويخالفه بقياس أو رأي . . حاشاه من رأي أو قياس يخالفان الشريعة .
والذي أجمع عليه أهل مذهبه أنه Bه يأخذ بخبر النبي صلى الله عليه وسلّم ما جاء فإن اختلف خبران وكان لأحدهما وجه في التأويل يوافق به الخبر الآخر الذي ليس له إلا وجه واحد في الظاهر وفق بينهما .
فإن لم يجد خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلّم أخذ من آثار الصحابة ما كان أقرب إلى كتاب الله وسنة نبيه ويسمى ذلك اجتهادا ( 3 ) .
كما أثر عنه Bه قوله : كذب والله وافترى علينا من يقول : إننا نقدم القياس على النص وهل يحتاج بعد النص إلى قياس .
وقال نحن لانقيس إلا عند الضرورة الشديدة وذلك أننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة أو أقضية الصحابة فإن لم نجد دليلا قسنا حينئذ مسكوتا عنه على منطوق به ( 4 ) .
وقال الحافظ محمد بن يوسف الصالحي الشافعي محدث الديار المصرية في ( عقود الجمان ) : كان أبو حنيفة من كبار حفاظ الحديث وأعيانهم ولولا كثرة اعتنائه بالحديث ما تهيأ له استنباط مسائل الفقه وذكره الذهبي في طبقات الحفاظ - ولقد أجاد وأفاد .
وفي سبب قلة الرواية عنه . . بالمقارنة مع بقية الفقهاء يقول الصالحي : إنما قلت الرواية عنه - وإن كان متسع الحفظ - لاشتغاله بالاستنباط وكذلك لم يرو عن مالك والشافعي إلا القليل بالنسبة إلى ما سمعاه للسبب نفسه .
كما قلت رواية أمثال أبي بكر وعمر من كبار الصحابة Bهم إلى كثرة اطلاعهم .
وقد كثرت رواية من دونهم بالنسبة إليهم ( 5 ) .
وعليه لا بد من الاعتراف بأن أبا حنيفة لم يكن من رواة مئات الآلاف من الأحاديث وإنما كان عنده صناديق من الحديث انتقى منها نحو أربعة آلاف حديث . نصفه من حماد بن أبي شيبة شيخه الخاص الذي تخرج به . ونصفه الآخر من باقي شيوخه وكان يكتفي فيما سوى ذلك بالاطلاع على باقي الأحاديث من رواية أصحابه البارعين في شتى العلوم أركان المجمع الفقهي الذي كان يرأسه هو وتبحث فيه المسائل من كل ناحية ثم تثبت في الديوان ( 6 )