- الحمد لله الذي هدانا إلى الملة الحنيفة السمحاء وبين لنا طرق الشريعة والحقيقة بواسطة الأنبياء والعلماء والأصفياء والصلاة والسلام على سيد الرسل وسند الأولياء وعلى آله وأصحابه نجوم الاقتداء والاهتداء .
أما بعد : فيقول عبد المعتصم بالكتاب القديم والحديث القويم المحتاج إلى ربه الكريم الباري علي بن سلطان محمد القاري : إن هذا فتح لطيف وشرح شريف للمسند المستند إلى الإمام الأعظم والهمام الأقدم أبي حنيفة النعمان بلغه الله على ( 1 ) غرف الجنان وتوالى عليه أنواع الغفران وأصناف الرضوان ( بسم الله الرحمن الرحيم ) الذي هو مفتاح كل كتاب كريم ( وعلى رسوله ) في مقام التعظيم ( الصلاة والتسليم ) وزيادة التشريف والتكريم ( الحمد لله ) على كل آلائه ونعمائه ( الذي شرع ) أي بين أو عين ( لنا دينا ) نتدين به قويما دائما ليس في أصله عوج ولا في فرعه حرج وهدانا إليه بفضله ومنته صراطا مستقيما موصلا في الدنيا إلى حصول معرفته وقربته وفي العقبى إلى وصول جنته ورحمته ( وأحمده ) بخصوص هذه النعمة الجزيلة والتحية الجميلة ( وأشكره على أن جعل هذه الأمة المكرمة متمسكين بأذيال الكتاب المستطاب والسنة المعظمة ) تعلما في مقام الكمال وتعليما في حال الإكمال عن عيسى عليه السلام : .
من علم وعمل وعلم يدعى في الملكوت عظيما . ( وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ) أي منفردا بالذات لا شريك له في الصفات وإبراز المصنوعات ( وأشهد أن محمدا عبده القائم ) بحقوق العبودية ورسوله المخبر عن الله بما يستحق من أوصاف الربوبية ( بعموم الرسالة ) المثقلين بل لعموم أجزاء الكونين تشريفا له وتكريما لأنه مظهرا الاسم الأعظم في وجه الأتم الجامع لنعوت الكمال وصفات الجلال والجمال ( صلى الله عليه ) بتواتر إيصال الرحمة والمنة والمنحة إليه ( وعلى آله ) أي أقاربه ( وأصحابه ) ولو من أجانبه وأزواجه أمهات المؤمنين وأنصاره في إقامة الدين ( وأتباعه ) في مقام اليقين ( وذرياته ) أي أولاده الطيبين وأحفاده أجمعين ( وسلم ) أي الله ( تسليما ) كثيرا إلى يوم الدين وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين .
_________ .
( 1 ) [ هكذا في نسختنا ولعله " علي " . دار الحديث ] .
_________ .
( أما بعد ) أي البسملة والحمد له والتصلية التي يحصل بذكرها الطمأنينة والسكينة والتسلية ( فهذا الكتاب ) الذي سيذكر عن قريب بعون رب مجيب ( مسند الإمام الأعظم ) أي المقتدى الأقوم والمستند الأكرم الأفخر ( أبي حنيفة النعمان ) بن الثابت في ميدان البيان ( Bه ) وعليه الرضوان وبلغه نهاية درجات الجنان ومناقبة كثيرة ومراتبه شهيرة غير محتاجة إلى البيان وقد قام بحقها بعض الأعيان .
( ولما كان ) الإمام مشتغلا باستخراج المسائل من الدلائل وصار وسائل كل طالب وسائل في باب الدراية لم يظهر منه إلا قليل من رواية وكذلك كان أجلاء الصحابة كأبي بكر ( 1 ) وعمر ( 2 ) Bهما مشتغلين بالعمل في غاية من الرعاية مشتغلين عن نقل الأحاديث والرواية لأن العمل هو المقصود والمعول في مقام الهداية والنهاية وأنشد فارس بن االحسن في شعره المستحسن .
يا طالب العلم الذي ... ذهبت بمدته الرواية .
كن في الرواية ذا العناية ... بالدراية والرعاية .
وارو القليل وراعه ... فالعلم ليس له نهاية .
ومن المعلوم أن [ من ] لم يكن محيطا بعلم الكتاب والسنة لم يتصور أن يكون إماما مقتدى للأمة ويكون الفقهاء كلهم عيالا له في تقويم الملة لا سيما في الصدر الأول مع وجود المجتهدين من الأئمة وقال الطحاوي : حدثنا سليمان بن شعيب حدثنا أبي قال : أملى علينا أبو يوسف قال قال أبو حنيفة : لا ينبغي للرجل أن يحدث من الحديث إلا ما يحفظه من يوم سمعه إلى يوم يحدث به وحاصله : أنه لم يجوز له الرواية بالمعنى ولو كان مرادفا للمبنى خلافا للجمهور من المحدثين فإنهم جوزوا رواية المعنى لا سيما عند نسيان المبنى .
فقلت رواية أبي حنيفة لهذه العلة الشريفة وله ( 3 ) Bه مسانيد كثيرة وأسانيد شهيرة بلغت خمسة عشر مسندا جمعها بعض الفضلاء واعتنى بضبطها طائفة من العلماء وأخيرها هذا المسند المعتمد الذي هو من رواية الخصكفي بفتح الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة ففاء مفتوحة فكاف فياء نسبة كذا رأيته مضبوطا بخط شيخنا مولانا عبد الله السندي C .
لكن في جواهر المضية في طبقات الحنفية للعلامة الشيخ عبد القادر القرشي الحصكفي بفتح الحاء المهملة وسكون الصاد المهملة وفتح الكاف وفي آخرها الفاء نسبة إلى حصن ( 4 ) كيفا مدينة من ديار بكر ونسبة موسى بن زكريا بن إبراهيم ابن محمد بن ساعدي القاضي الإمام العلامة صدر الدين روى كتاب الشمائل للترمذي عن الإمام افتخار الدين أبي هاشم عبد المطلب بن الفضل بن عبد المطلب الهاشمي بسماعه من أبي الفتح عبد الرشيد بن النعمان بن عبد الرزاق الولوالجي وأبي الفتح عمر بن علي بن أبي الحسن الكرابيسي ( 5 ) والصائب بن علي بن الحسن ابن بشير بن عبد الله النفاش عن أبي شجاع عمر بن محمد بن عبد الله البستاني البلخي عن أبي القاسم محمد بن عبد الله الخليلي أنا الشريف أبو القاسم علي ابن أحمد الخزاعي حدثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشافعي حدثنا أبو موسى محمد ابن عيسى الترمذي : ولد سنة ثمانين وخمسمائة وحدث بالقاهرة وصلب سمع منه الدمياطي الحافظ وذكره في معجم شيوخه ومات بالقاهرة سنة خمسين وستمائة ودفن جوار السيدة نفيسة .
واعلم ( 6 ) أن له مشايخ كثيرة من الصحابة والتابعين وأتباعهم وصلت جملتهم أربعة آلاف كما قال بعض أرباب الأنصاف في باب الاعتراف .
غدا مذهب النعمان خير المذاهب ... فذا القمر الوضاح خير الكواكب .
ثلاثة آلاف وألف شيوخه ... وأصحابه مثل النجوم الثواقب .
فإن قلت : مشايخ البخاري ربما بلغ عشرة آلاف فلا تفاضل .
قلت : ليس من يروى عنه الحديث كمن يروى عنه الفقه فإن الذي يروى عنه الفقه لا بد أن يكون فقيها عالما والذي يروى عنه الحديث : لا يلزم أن يكون بهذه الصفة حتى كثر رواة الحديث وقل الفقهاء ( 7 ) .
والحاصل ( 8 ) أن أكثر مشايخ الإمام كانوا جامعين بين الرواية والدراية وأكثر مشايخ البخاري بارز بعلو الإسناد في الرواية وقد أشار صلى الله عليه وسلّم إلى الأحسن في الوعاية حيث قال : " نضر الله امرء سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " رواه الترمذي وغيره عن زيد بن ثابت . وقد ذكر الإمام النسفي صاحب المنظومة بإسناده إلى محمد بن سلمة قال : خرجت إلى البصرة في طلب الحديث فأخرج شيخ مسند الإمام وأملى فامتنع بعضهم عن الكتابة فأمسك الشيخ أياما عن الحديث ثم قال : أدركت مجلسه وكان يحضره فلان وفلان وهؤلاء يكتبون حديثه فتشفعنا إليه بالله تعالى حتى حدثنا بأحاديث قيل وكان امتناع المتعنت عن الكتابة بناء على ظن أن الإكثار من الفقه يخل بحفظ الحديث فجعل المنقبة مثلبة ثم هذا المسند المعتمد لم يذكر إلا بعض مشايخه الكرام من المحدثين الأعلام ولهذا قال جامعه : ذكر إسناده ( عن حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري ) قال العلامة الكردري في مناقب الإمام فذكر مشايخ الكرام حماد ابن مسلم أبو سليمان الأشعري مولى ابراهيم بن مه أبي موسى الأشعري تابعي كوفي سمع إبراهيم النخعي وأعلم الناس برأيه مات سنة عشرين ومائة وقد قال أبو حنيفة C تعالى : ما رأيت أفقه من حماد ولا أجمع للعلوم من عطاء بن أبي رباح .
وقال صاحب المشكاة في أسماء رجاله حماد بن أبي سليمان واسم أبي سليمان مسلم : تابعي سمع جماعة روى عنه شعبة والثوري وغيرهما انتهى . وكان لا يكلم في حوائجه الدنيوية وفقه ما لم يفصل بين كلمتين من كلامه بتسبيحة وكان يقول : أستحي أن أجد في ديواني سطرا ليس فيه تسبيح .
وكان يقول ربما انتهت رأي برأي أبي حنيفة C وأقوالي بقوله . ( أبو حنيفة ) أي روى ( عن حماد ) المذكور ( عن إبراهيم ) أي النخعي وهو تابعي جليل عن الأسود أي ابن يزيد واعلم أن في اصطلاح المحدثين محمولة للسماع والإجازة لكن عنعنة المعاصر محمولة على السماع سواء ثبت اللقاء بينهما أم لا عند الجمهور خلافا للبخاري حيث يشترط اللقاء ولا شبهة في ثبوت اللقاء بين الإمام ومشايخه الكرام فتنبه لهذا المقام ( إن عمر بن الخطاب دخل على النبي صلى الله عليه وسلّم في شكاة ) بكسر الشين المعجمة وفي آخره تاء أي في مرض ومحنة ( شكاها ) أي تعب فيها من شدة أذاها فإذا للمفاجأة ( هو ) أي النبي E ( مضطجع على عباءة ) بفتح أول أي كساء خشن ( قطوانية ) بفتح القاف والطاء المهملة نسبة إلى موضع بالكوفة وهي عباءة بيضاء قصيرة الخمل كما في النهاية ( ومرفقه ) ( 9 ) بكسر الميم وفتح الفاء فيجوز العكس وبهما قرىء في قوله تعالى : { ويهيء لكم من أمركم مرفقا } ( 10 ) وفي القاموس المرفقة كمكنسة المخدة ( من صوف ) أي وجهها صوف ( حشوها إذخر ) بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين وفي آخرها راء نبت معروف بمكة ( فقال ) أي عمر ( بأبي أنت وأمي ) أي فديتهما بك يا رسول الله والجملة معترضة إذ المقصود من المقول قوله ( كسرى ) بكسر الكاف وفتح الراء وإمالته لقب ملك الفرس ( وقيصر ) كجعفر لقب ملك الروم ( على الديباج ) بكسر الدال المهملة معرب مشهور أي هما ونحوهما قاعدون أو راقدون على الحرير فوق السرير ( وأنت ) مع كمال الجلالة في مقام الرسالة ( على هذه الحالة ) التي تورث الملالة فقال E : ( ياعمر أنت ) في هذا المقام ( أما ترضى ) القسمة الإلهية " وفق الإرادة الأزلية ( أن يكون لهما الدنيا ) الفانية ( ولنا الآخرة ) الباقية " .
وذكر البغوي في تفسيره قوله تعالى : { ولا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار } ( 11 ) أنها نزلت في المشركين وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين فقال بعض المؤمنين إن أعداء الله فيما ترى من النعماء ونحن في الجهد والبلاء فأنزل الله هذه الآية تسلية للأحياء .
وفي البخاري عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال " جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مشربه أي غرفة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرظا وهو ما يدبغ به حصورا ( 12 ) وفي نسخة مصوبا وعند رأسه أهب معلقة جمع إهاب فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال صلى الله عليه وسلّم : ما يبكيك ؟ فقلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت يا رسول الله فقال : " أما ترضى أن يكون لهما الدنيا ولنا الآخرة " ( ثم إن عمر مسه ) أي مس النبي صلى الله عليه وسلّم وجسه ليدرك بيده ما أحسه ( فإذا هو في شدة الحمى ) وغاية البلوى كما روى ابن ماجه وابن أبي الدنيا روى الحاكم وقال : صحيح الإسناد كلهم من رواية أبي سعيد الخدري أنه E كانت عليه قطيفة فكانت الحمى تصيب من يضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك فقال : " إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر " ( فقال ) أي عمر ( تحم ) بضم التاء وفتح الحاء وتشديد الميم أي تصيبك الحمى ( هكذا ) أي بهذه المثابة من الشدة في الإصابة ( وأنت رسول الله ) والرسالة غاية الرتبة في المختبر ونهاية المرتبة في العزة ( فقال : إن أشد هذه الأمة بلاء نبيها ثم الخير ) بتشديد التحتية المكسورة أي المبالغ في الخير ( ثم الخير ) أي وهلم جرا من أمته على مقدار خيريته بين خلق الله وبريته ( وكذلك كانت الأنبياء ) عليهم السلام ( قبلكم ) أي مبتلين بأنواع البلاء على مقدار مراتبهم في مقام الولاء ( والأمم ) أي وكذا حال أممهم على قدر ألمهم .
والمعنى أنه لن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا .
وأخرج النسائي وصححه الحاكم من حديث فاطمة أخت حذيفة بن اليمان .
قالت أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم في الشتاء تعوده فإذا يقطر عليه من شدة الحمى فقال : " إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " وقد روى أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد مرفوعا " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل [ فالأمثل ] يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه دقة ابتلى على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة " ورواه ابن ماجه في سننه وأبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها أي يحصل جيبا لها فيلبسها فيبتلى بالقمل حتى يقتله ولقد كان أحدهم أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء " .
ومجمل الكلام أن البلاء علامة الولاء فإنه إما سبب لإعلاء الدرجات كما في الأنبياء وإما لإمحاء السيئات كما في الأولياء مع أن هذه الدار مشوبة بالأكدار سواء فيها الفجار والأبرار كما أشار إليه قوله سبحانه : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } ( 13 ) .
( يتبع . . . )