" وهو الذي مرج ابحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا " سمى الماءين الكثيرين الواسعين : بحرين والفرات : البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاة . والأجاج : نقيضه . ومرجهما متجاورين متلاصقين وهو بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج . وهذا من عظيم اقتداره . وفي كلام بعضهم : وبحران : أحدهما مع الآخر ممروج وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج " برزخا " حائلا من قدرته كقوله تعالى : " بغير عمد ترونها " الرعد : 2 ، لقمان : 10 يريد بغير عمد مرئية وهو قدرته . وقرئ : ملح على فعل . وقيل : كأنه حذف من مالح تخفيفا كما قال : وصلينا بردا يريد : باردا . فإن قلت : " وحجرا محجورا ما معناه ؟ قلت : هي الكلمة التي يقولها المتعوذ ؛ وقد فسرناها وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له : حجرا محجورا كما قال " لا يبغيان " الرحمن : 20 أي لا ينبغي أحدهما على صاحبة بالممازجة فانتفاء البغي ثمة كالتعوذ ههنا : جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه . وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة .
" وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا " أراد : فقسم البشر قسمين ذوي نسب أي : ذكورا ينسب إليهم فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلانة وذوات صهر : أي إناثا يصاهر بهن ونحوه قوله تعالى : " فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى " القيامة : 39 . " وكان ربك قديرا " حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين : ذكرا وأنثى .
" ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا " الظهير والمظاهر كالعوين والمعاون . وفعيل بمعنى مفاعل غير عزيز . والمعنى : أن الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك . روي أنها نزلت في أبي جهل ويجوز أن يريد بالظهير : الجماعة كقوله : " والملائكة بعد ذلك ظهيرا " التحريم : 4 كما جاء : الصديق والخليط يريد بالكافر : الجنس وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله . وقيل : معناه : وكان الذي يفعل هذا الفعل - وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر - على ربه هينا مهينا من قولهم : ظهرت به إذا خلقته خلف ظهرك لا تلتفت إليه وهذا نحو قوله : " أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم " آل عمران : 77 .
" وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا " مثال " إلا من شاء " المراد : إلا فعل م شاء واستثنائه عن الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال : ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه . فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه فأفاد فائدتين إحداهما : قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله كأنه يقول لك : إن كان حفظك لمالك ثوابا فإني أطلب الثواب والثانية : إظهار الشفقة البالغة وأنك إن حفظك مالك : اعتد بحفظك ثوابا ورضي به كما يرضى المثاب بالثواب . ولعمري إن رسول الله A كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه . ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلا : تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة . وقيل : المراد التقريب بالصدقة والنفقة في سبيل الله .
" وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به ذنوب عباده خبيرا " أمره بأن يثق به ويسند أمره إليه في استكفاء شرورهم مع التمسك بقاعدة التوكل وأساس الالتجاء وهو طاعته وعبادته وتنزيهه وتحميده عرفه أن الحي الذي لا يموت حقيق بأن يتوكل عليه وحده ولا يتكل على غيره من الأحياء الذين يموتون . وعن بعض السلف أنه قرأها فقال : لايصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق ثم أراه أن ليس إليه من أمر عباده شيء . آمنوا أم كفروا وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم .
" الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا "