هذا كلام قد دخله اختصار . والمعنى : إن الله ناصر رسوله في الدنيا والأخرة ؛ فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أنه يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيط كل مبلغ حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق فلينظر وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه ؟ وسمي الاختناق قطعا ؛ لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه . ومنه قيل للبهر : القطع وسمي فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره . أو على سبيل الاستهزاء ؛ لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه . والمراد : ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه . وقيل : فليمدر بحبل إلى السماء المظلة وليصعد عليه فليقطع الوحي أو ينزل عليه . وقيل : كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطؤون ما وعد الله رسوله من النصر وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يثبت أمره . فنزلت . وقد فسر النصر : بالرزق وقيل : معناه أن الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئته ولا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله غير رازقه وليس به صبر واستسلام فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا .
" وكذلك أنزلنه ءايت بينت وأن الله يهدي من يريد " .
أي : ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله " آيات بينات و " ل " أن الله يهدي " به الذين يعلم أنهم يؤمنون . أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى أنزله كذلك مبينا .
" إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصبئين والنصرى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيمة إن الله على كل شئ شهيد " .
الفصل مطلق يحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد . وقيل : الأديان خمسة : أربعة للشيطان وواحد للرحمن جعل الصابئون مع النصارى لأنهم نوع منهم . وقيل : " يفصل بينهم " يقضي بينهم أي بين المؤمنين والكافرين . وأدخلت " إن " على كل واحد من جزأي الجملة لزيادة التوكيد . ونحوه قول جرير : .
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم .
" ألم تر أن الله يسجد له من فى السموت ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء " .
سميت مطاوعتها له فيما يحدث فيها من أفعاله ويجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها : سجودا له تشبيها لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلف في باب الطاعة والانقياد وهو السجود الذي كل خضوع دونه فإن قلت : فما تصنع بقوله : " وكثير من الناس " وبما فيه من الاعتراضين أحدهما : أن السجود على المعنى الذي فسرته به لا يسجده بعض الناس دون بعض . والثاني : أن السجود قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجن أولا فإسناده إلى كثير منهم آخرا مناقضة ؟ قلت : لا أنظم كثيرا في المفردات المتناسقة الداخلة تحت حكم الفعل وإنما أرفعه بفعل مضمر يدل عليه قوله : " يسجد " أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة . ولم أقل : أفسر يسجد الذي هو ظاهر بمعنى الطاعة والعبادة في حق هؤلاء ؛ لأن اللفظ الواحد لا يصح استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين أو أرفعه على الابتداء والخبر محذوف وهو مثاب لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله : " حق عليه العذاب " ويجوز أن يجعل " من الناس " خبرا له أي : من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون . ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العقاب كأنه قيل : وكثير وكثير من الناس حق عليهم العذاب وقرىء " حق " بالضم . وقرىء : " حقا " أي حق عليهم العذاب حقا . ومن أهانه الله - بأن كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه - فقد بقي مهانا لن تجد له مكرما . وقرىء : " مكرم " بفتح الراء بمعنى الإكرام . إنه " يفعل ما يشاء " من الإكرام والإهانة ولا يشاء من ذلك إلا ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين