فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا : أنتم الظالمون على الحقيقة لا من ظلمتموه حين قلتم : من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين .
" ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " .
نكسته : قلبته فجعلت أسفله أعلاه وانتكس : انقلب أي : استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة وأن هؤلاء - مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق - آلهة معبودة مضارة منهم . أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه حين نفوا عنها القدرة على النطق . أو قلبوا على رؤوسهم حقيقة لفرط إطراقهم سنن وانكسارا وانخزالا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة عليهم . وقرىء : " نكسوا " بالتشديد ونكسوا على لفظ ما سمي فاعله أي : نكسوا أنفسهم على رؤوسهم . قرأ به رضوان بن عبد المعبود .
" قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " .
" أف " صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل فتأفف بهم . واللام لبيان المتأفف به . أي : لكم ولآلهتكم هذا التأفف .
" قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فعلين قلنا ينار كوني بردا وسلما على إبرهيم وأرادوا به كيدا فجعلنهم خاسرين " .
أجمعوا رأيهم - لما غلبوا - بإهلاكه ؛ وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح لم يكن أحد أبغض إليه من المحق . ولم يبق له مفزع إلا مناصبته كما فعلت قريش برسول الله A حين عجزوا عن المعارضة والذي أشار بإحراقه نمروذ . وعن ابن عمر Bهما : رجل من أعراب العجم يريد الأكراد . وروي : أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم عليه السلام ثم أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجو من وهجها . ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها فناداها جبريل عليه السلام " ينار كونى بردا وسلما " ويحكى . ما أحرقت منه إلا وثاقه . وقال له جبريل عليه السلام حين رمي به : هل لك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا . قال : فسل ربك . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالى . وعن ابن عباس Bهما : إنما نجا بقوله : حسبي الله ونعم الوكيل وأطل عليه نمروذ من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال : إني مقرب إلى إلهك فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه إذ ذاك ابن ست عشرة سنة . واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولذلك جاء : " لا يعذب بالنار إلا خالقها " ومن ثم قالوا : " إن كنتم فعلين " أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا فاختاروا له أهول المعاقبات وهي الإحراق بالنار وإلا فرطتم في نصرتها . ولهذا عظموا النار وتكلفوا في تشهير أمرها وتفخيم شأنها ولم يألوا جهدا في ذلك . جعلت النار لمطاوعتها فعل الله وإرادته كمأمور أمر بشيء فامتثله . والمعنى : ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كأن ذاتها برد وسلام . والمراد : ابردي فيسلم منك إبراهيم . أو ابردي بردا غير ضار . وعن ابن عباس Bه : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها . فإن قلت : كيف بردت النار وهي نار ؟ قلت : نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة أوالإشراق والاشتعال كما كانت والله على كل شيء قدير . ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك كما يفعل بخزنة جهنم ويدل عليه قوله : " على إبرهيم " وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت وفزعوا إلى القوة والجبروت فنصره وقواه .
" ونجينه ولوطا إلى الأرض التي بركنا فيها للعلمين "