قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وايقاظ الموقظ : بأن الله يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون فما يزيدهم استماع الاي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر - التي هي أحق الحق وأجد الجد - إلا لعبا وتلهيا واستسخارا . والذكر : هو الطائفة النازلة من القرآن . وقرأ ابن أبي عبلة " محدث " بالرفع صفة على المحل . قوله : " وهم يلعبون لاهية قلوبهم " حالان مترادفتان أو متداخلتان ومن قرأ : " لاهية " بالرفع فالحال واحدة لأن " لاهية قلوبهم " خبر بعد خبر لقوله : " وهم " واللاهية : من لهى عنه إذا ذهل وغفل يعني أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلا وثبتوا على رأس غفلتهم وذهولهم عن التأتل والتبصر بقلوبهم " وأسروا النجوى " فإن قلت : النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية فما معنى قوله : " وأسروا " ؟ . قلت : معناه وبالغوا في إخفائها . أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون أبدل " الذين ظلموا " من واو وأسروا إشعارا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به . أو جاء على لغة من قال " أكلوني البراغيث " أو هو منصوب المحل على الفم . أو هو مبتدأ خبره " وأسروا النجوى " قدم عليه . والمعنى : وهؤلاء أسروا النجوى . فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم " هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تعلمون " هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من النجوى أي : وأسروا هذا الحديث . ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمرا : اعتقدوا أن رسول الله A لا يكون إلا ملكا وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر فلذلك قالوا على سبيل الإنكار : أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر ؟ . فإن قلت : لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه . قلت : كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره وعمل المنصوبة في التثبيط عنه وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم ويتجاهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع . ومنه قول الناس : " استعينوا على حوائجكم بالكتمان " ويرفع إلى رسول الله A . ويجوز أن يسروا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله A والمؤمنين : إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررنا .
" قال ربي يعلم القول فى السماء والأرض وهو السميع العليم " .
فإن قلت : هلا قيل : يعلم السر لقوله : " وأسروا النجوى " الأنبياء : 3 ، قلت : القول عام يشمل السر والجهر . فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول : يعلم السر كما أن قوله : يعلم السر آكد من أن يقول : يعلم سرهم . ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية . فإن قلت : فلم ترك هذا الآكد في سورة الفرقان في قوله : " قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض " الفرقان : 6 . قلت : ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع . ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتق الكلام افتنانا وتجمع الغاية وما دونها على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى . فكأنه أراد أن يقول : إن ربي يعلم ما أسروه فوضع القول موضع ذلك للمبالغة وثم قصد وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض فهو كقوله علام الغيوب " عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة " سبأ : 3 ، وقرىء " قال ربى " حكاية لقول رسول الله A لهم .
" بل قالوا أضغث أحلم بل أفتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون "