فرط : سبق وتقدم . ومنه الفارط : الذي يتقدم الواردة . وفرس فرط : يسبق الخيل أي : نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها . وقرىء " يفرط " من أفرطه غيره إذا حمله على العجلة . خافا أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب من شيطان أو من جبروته واستكباره وادعائه الربوبية . أو من حبه الرياسة أو من قومه القبط المتمردين الذين حكى عنهم رب العزة " قال الملأ من قومه " الأعراف : 60 ، " و قال الملأ من قومه " المؤمنون : 33 ، وقرىء " يفرط " من الإفراط في الأذية أي : نخاف أن يحول بيننا وبين تبليغ الرسالة بالمعاجلة . أو يجاوز الحد في معاقبتنا إن لم يعاجل بناء على ما عرفا وجربا من شرارته وعتوه " أو أن يطغى " بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجرأته عليك وقسوة قلبه . وفي المجيء به هكذا على الإطلاق وعلى سبيل الرمز : باب حسن الأدب وتحاش عن التفوه بالعظيمة .
" قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك معنا بني إسرءيل ولا تعذبهم قد جئنك بئاية من ربك والسلم على من اتبع الهدى إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " .
" معكما " أي حافظكما وناصركما " أسمع وأرى " ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل ما يوجبه حفظي ونصرتي لكما فجائز أن يقدر أقوالكم وأفعالكم وجائز أن لا يقدر شيء وكأنه قيل : أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر . وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وصحت النصرة وذهبت المبالاة بالعدو . كانت بنو إسرائيل في ملكة فرعون والقبط يعذبونهم بتكليف الأعمال الصعبة : من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شيء مع قتل الولدان واستخدام النساء " قد جئناك بآية من ربك " جملة جارية من الجملة الأولى وهي " إنا رسولا ربك " مجرى البيان والتفسير لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية إنما وحد قوله " بآية " ولم يثن ومعه آيتان : لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال : قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك " قد جئتكم ببينة من ربكم " الأعراف : 105 ، " فأت بآية إن كنت من الصادقين " الشعراء : 154 ، " أو لو جئتك بشيء مبين " الشعراء : 30 ، " والسلام على من اتبع الهدى " يريد : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين .
" قال فمن ربكما يموسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " .
خاطب الاثنين ووجه النداء إلى أحدهما وهو موسى ؛ لأنه الأصل في النبوة وهرون وزيره وتابعه . ويحتمل أن يحمله خبثه ودعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه . لما عرف من فصاحة هرون والرتة في لسان موسى . ويدل عليه قوله : " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين " الزخرف : 52 ، " خلقه " أول مفعولي أعطى أي : أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به . أو ثانيهما أي : أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان : كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه . أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحجر . زوجين والبعير والناقة والرجل والمرأة فلم يزاوج منها شيئا غير جنسه وما هو على خلاف خلقه . وقرىء " خلقه " صفة للمضاف أو للمضاف إليه أي : كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه " ثم هدى " أي عرف كيف يرتفق بما أعطى وكيف يتوصل إليه . ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق .
" قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي فى كتب لا يضل ربى ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزوجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعمكم إن في ذلك لأيت لأولى النهى "