لما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفاز ما يملك البشر عند الأهوال والمخاوف وعن ابن عباس : انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر فلما رآه يبتلع كل شيء خاف ونفر . وعن بعضهم : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها . وقيل : لما قال له ربه : " لا تخف " بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيها . " سيرتها " السيرة : من السير كالركبة من الركوب . يقال : سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة وقيل : سير الأولين فيجوز أن ينتصب على الظرف أي : سنعيدها في طريقتها الأولى أي : في حال ما كانت عصا وأن يكون " أعاد " منقولا من " عاده " بمعنى عاد إليه . ومنه بيت زهير : .
وعادك أن تلاقيها عداء .
فيتعدى إلى مفعولين . ووجه ثالث حسن : وهو أن يكون " سنعيدها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أولا . ونصب سيرتها بفعل مضمر أي : تسير سيرتها الأولى : يعني سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها .
" واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء ءاية أخرى لنريك من ءايتنا الكبرى " .
قيل لكل ناحيتين : جناحان كجناحي العسكر لمجنبتيه وجناحا الإنسان : جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر . سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران . والمراد إلى جنبك تحت العضد دل علىذلك قوله : " تخرج " السوء : الرداءة والقبح في كل شيء فكني به عن البرص كما كني عن العورة بالسوأة وكان جذيمة صاحب الزباء أبرص فكنوا عنه بالأبرش . والبرص أبغض شيء إلى العرب . وبهم عنه نفرة عظيمة وأسماعهم لاسمه مجاجة فكان جديرا بأن يكنى عنه ولا نرى أحسن ولا ألطف ولا أحز للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه . يروى : أنه كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر . " بيضاء " و " ءاية " حالان معا . و " من غير سوء " " من " صلة ل " بيضاء " كما تقول : ابيضت من غير سوء وفي نصب " ءاية " وجه آخر وهو أن يكون بإضمار نحو : خذ ودونك وما أشبه ذلك . حذف لدلالة الكلام وقد تعلق بهذا المحذوف " لنريك " أي خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الايتين بعض اياتنا الكبرى . أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا . أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك .
" اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدرى ويسر لى أمرى واحلل عقدة من لساني يفقهوا لي واجعل لي وزيرا من إهلي هرون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بصيرا " .
لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي لعنه الله عرف أنه كلف أمرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون ومقاساة جلائل الخطوب . فإن قلت : " لى " في قوله : " اشرح لي صدري ويسر لي أمري " ما جدواه والكلام بدونه مستتب ؟ قلت : قد أبهم الكلام أولا فقيل : اشرح لي ويسر لي فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره من أن يقول : اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل . عن ابن عباس : كان في لسانه رتة لما روي من حديث الجمرة ويروى : أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال : إلى أي رب تدعوني . قال : إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها . وعن بعضهم : إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المواكلة . واختلف في زوال العقدة بكمالها فقيل : ذهب بعضها وبقي بعضها لقوله تعالى : " وأخي هارون هو أفصح مني لسانا " القصص : 34 ، وقوله تعالى : " ولا يكاد يبين " الزخرف : 52 ، وكان في لسان الحسين بن علي رضي الله عنهما رتة فقال رسول الله A :