" إن نحن إلا بشر مثلكم " تسليم لقولهم وأنهم بشر مثلهم لعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعا منهم واقتصروا على قولهم " ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " بالنبوة لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم " إلا بإذن الله " أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قوله : " وما لنا أن لا نتوكل على الله " ومعناه : وأي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه " وقد هدانا " وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين فإن قلت : كيف كرر الأمر بالتوكل ؟ قلت : الأول لاستحداث التوكل وقوله : " فليتوكل المتوكلون " معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدم .
" وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " .
" لنخرجنكم " " أو لتعودن " ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم حالفين على ذلك . فإن قلت : كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها . قلت : معاذ الله ولكن العود بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون صار ولكن عاد ما عدت أراه عاد لا يكلمني ما عاد لفلان مال . أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد " لنهلكن الظالمين " حكاية تقتضي إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه . وقرأ أبو حيوة : ليهلكن وليسكننكم بالياء اعتبارا لأوحى وأن لفظه لفظ الغيبة ونحوه قولك : أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن . والمراد بالأرض . أرض الظالمين وديارهم ونحوه " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها " الأعراف : 127 ، " وأورثكم أرضهم وديارهم " الأحزاب : 27 ، . وعن النبي A : " من آذى جاره ورثه الله داره " . ولقد عاينت هذا في مدة قريبة : كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته فنظرت يوما إلى أبناء خالي يترددون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله A وحدثتهم به وسجدنا شكرا لله " ذلك " إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أي ذلك الأمر حق " لمن خاف مقامي " موقفي وهو موقف الحساب لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة أو على إقحام المقام . وقيل : خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله . والمعنى إن ذلك حق للمتقين كقوله : " والعاقبة للمتقين " الأعراف : 128 .
" واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ومن ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ " .
" واستفتحوا " واستنصروا الله على أعدائهم " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " الأنفال : 19 ، أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة كقوله تعالى : " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق " الأعراف : 89 ، وهو معطوف على " أوحي إليهم وقرئ : واستفتحوا بلفظ الأمر . وعطفه على " لتهلكن " أي : أوحى إليهم ربهم قال لهم لنهلكن وقال لهم استفتحوا " وخاب كل جبار عنيد " معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم . وقيل : واستفتح الكفار على الرسل ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه " من ورائه " من بين يديه . قال : .
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب