" وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " قفيته مثل عقبته إذا أتبعته ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء فإن قلت : فأين المفعول الأول في الآية ؟ قلت : هو محذوف والظرف الذي هو " على آثارهم " كالساد مسده ؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه والضمير في آثارهم للنبيين في قوله : " يحكم بها النبييون الذين أسلموا " . وقرأ الحسن : الأنجيل بفتح الهمزة ؛ فإن صح عنه فلأنه أعجمي خرج لعجمته عن زنات العربية كما خرج هابيل وآجر " ومصدقا " عطف على محل " فيه هدى " ومحله النصب على الحال " وهدى وموعظة " يجوز أن ينتصبا على الحال . كقوله : " مصدقا " وأن ينتصبا مفعولا لهما كقوله : " وليحكم " كأنه قيل . وللهدى والموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام . فإن قلت : فإن نظمت " وهدى وموعظة " في سلك مصدقا فما تصنع بقوله وليحكم قلت : اصنع به ما صنعت بهدى وموعظة حين جعلتهما مفعولا لهما فأقدر : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه . وقرئ : وليحكم على لفظ الأمر بمعنى : وقلنا ليحكم . وروي في قراءة أبي : وأن ليحكم بزيادة أن مع الأمر على أن موصولة بالأمر كقولك : أمرته بأن قم كأنه قيل : وآتيناه الأنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل . وقيل : إن عيسى عليه السلام كان متعبدا بما في التوراة من الأحكام ؛ لأن الإنجيل مواعظ وزواجر والأحكام فيه قليلة . وظاهر قوله : " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه " يرد ذلك وكذلك قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " المائدة : 48 ، وإن ساغ لقائل أن يقول : معناه : وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة .
" وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " فإن قلت : أي فرق بين التعريفين في قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب " وقوله : " لما بين يديه من الكتاب " ؟ قلت الأول : تعريف العهد لأنه عنى به القرآن . والثاني : تعريف الجنس لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة : ويجوز أن يقال : هو للعهد ؛ لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق وإنما أريد نوع معلوم منه وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن " ومهيمنا " ورقيبا على سائر الكتب ؛ لأنه يشهد لها بالصحة والثبات . وقرئ : مهيمنا عليه بفتح الميم أي هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل كما قال : " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فصلت : 42 ، والذي هيمن الله عليه D أو الحفاظ في كل بلد لو حرف حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه عليه كل أحد ولاشمأزوا رادين ومنكرين . ضمن " ولا تتبع " معنى ولا تنحرف ؛ فلذلك عدي بعن كأنه قيل : ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم " لكل جعلنا منكم " أيها الناس " شرعة " شريعة . وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الشين " ومنهاجا " وطريقا واضحا في الدين تجرون عليه . وقيل : هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا " لجعلكم أمة واحدة " جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه " ولكن " أراد " ليبلوكم في ما آتاكم " من الشرائع المختلفة هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة ؟ أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل ؟ " فاستبقوا الخيرات " فابتدروها وتسابقوا نحوها " إلى الله مرجعكم " استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات " فينبئكم " فيخبركم بما لا تشكون معهه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وعاملكم ومفرطكم في العمل .
" وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون "