ثم مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين : في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله . فإن قلت : ما معنى قوله : " فهى إلى الأذقان " ؟ قلت : معناه : فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن . فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحا . والمقمح : الذي يرفع رأسه ويغض بصره . يقال : قمح البعير فهو قامح : إذا روي فرفع رأسه ومنه شهرا قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما وهما الكانونان . ومنه : اقتمحت السويق . فإن قلت : فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق - وبذلك يسمى جامعة - كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدي ؟ قلت : الوجه ما ذكرت لك والدليل عليه قوله : " فهم مقمحون " ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله : " فهى إلى الأذقان " ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج . فإن قلت : فقد قرأ ابن عباس Bهما : " في أيديهم " وابن مسعود : " في أيمانهم " فهل تجوز على هاتين القراءتين أن يجعل الضمير للأيدي أو للأيمان ؟ قلت : يأبى ذلك وإن ذهب الإضمار المتعسف ظهور كون الضمير للأغلال وسداد المعنى عليه كما ذكرت . وقرىء : " سدا " بالفتح والضم . وقيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح وما كان من خلق الله فالبضم " فأغ ( شيناهم " فأغشينا أبصارهم أي : غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئي وعن مجاهد : فأغشيناهم : فألبسنا أبصارهم غشاوة . وقرىء : بالعين من العشا . وقيل : نزلت في بني مخزوم وذلك : أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي اخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله عينيه .
وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لايؤمنون غنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم " فإن قلت : قد ذكر ما دل على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الإنذار ثم قفاه بقوله : " إنما تنذر " وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيا . قلت : هو كما قلت ولكن لما كان ذلك نفيا للإيمان مع وجود الإنذار وكان معناه أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الإيمان قفي بقوله : " إنما تنذر " على معنى : إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم المتبعون للذكر : وهو القرآن أو الوعظ الخاشون ربهم .
" إن نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في أمام مبين " " نحيي الموتى " نبعثهم بعد مماتهم . وعن الحسن : إحياؤهم : أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان " ونكتب ما " أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها وما هلكوا عنه من أثر حسن كعلم علموه أو كتاب صنفوه أو حبيس حبسوه أو بناء بنوه أو مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك . أو سيئ كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين وسكة أحدث فيها تخسيرهم وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله : من ألحان وملاه وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها . ونحوه قوله تعالى : " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " القيامة : 13 ، أي : قدم من أعماله وأخر من آثاره . وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد . وعن جابر :