الواقع بين زيد وعمرو زيد جاء لا عمرو كيف يكون قولك زيد جاء إثباتا للمجيء لزيد صريحا وقولك لا عمرو إثباتا للمجيء لزيد ضمنا لأن الفعل وهو المجيء واقع وإذا كان كذلك وهو مسلوب عن عمرو فيكون ثابتا لزيد بالضرورة قلت أراد بمن لا وقوف له على علم النحو الإمام فخر الدين الرازي فإنه قال أن ما في إنما هي النافية وتقرير ما قاله هو أن أن للإثبات وما للنفي والأصل بقاؤهما على ما كانا وليس أن لإثبات ما عدا المذكور وما لنفي المذكور وفاقا فتعين عكسه ورد بأنها لو كانت النافية لبطلت صدارتها مع أن لها صدر الكلام واجتمع حرفا النفي والإثبات بلا فاصل ولجاز نصب إنما زيد قائما وكان معنى إنما زيد قائم تحقق عدم قيام زيد لأن ما يلي حرف النفي منفي ووجه الكرماني قول من يقول أن ما نافية بقوله وليس كلاهما متوجهين إلى المذكور ولا إلى غير المذكور بل الإثبات متوجه إلى المذكور والنفي إلى غير المذكور إذ لا قائل بالعكس اتفاقا ثم قال واعترض عليه بأنه لا يجوز اجتماع ما النفيية بأن المثبتة لاستلزام اجتماع المتصدرين على صدر واحد ولا يلزم من إثبات النفي لأن النفي هو مدخول الكلمة المحققة فلفظة ما هي المؤكدة لا النافية فتفيد الحصر لأنه يفيد التأكيد على التأكيد ومعنى الحصر ذلك ثم أجاب عن هذا الاعتراض بقوله المراد بذلك التوجيه أن إنما كلمة موضوعة للحصر وذلك سر الوضع فيه لأن الكلمتين والحالة هذه باقيتان على أصلهما مرادتان بوضعهما فلا يرد الاعتراض وأما توجيهه بكونه تأكيدا على تأكيد فهو من باب إيهام العكس إذ لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد ظن أن كل ما فيه تأكيد على تأكيد حصر وليس كذلك وإلا لكان والله أن زيد القائم حصرا وهو باطل قلت الاعتراض باق على حاله ولم يندفع بقوله أن إنما كلمة موضوعة للحصر إلى آخره على ما لا يخفى ولا نسلم أنها موضوعة للحصر ابتداء وإنما هي تفيد معنى الحصر من حيث تحقق الأوجه الثلاثة التي ذكرناها فيها وقوله ظن أن كل ما فيه تأكيد إلى آخره غير سديد لأنه لم يكن ذلك أصلا لأنه لا يلزم من كون الحصر تأكيدا على تأكيد كون كل ما فيه تأكيد على تأكيد حصرا حتى يلزم الحصر في نحو والله أن زيد القائم فعلى قول المحققين كل حصر تأكيد على تأكيد وليس كل تأكيد على تأكيد حصرا فافهم وإذا تقرر هذا فاعلم أن إنما تقتضي الحصر المطلق وهو الأغلب الأكثر وتارة تقتضي حصرا مخصوصا كقوله تعالى ( إنما أنت منذر ) وقوله ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ) فالمراد حصره في النذارة لمن لا يؤمن وإن كان ظاهره الحصر فيها لأن له صفات غير ذلك والمراد في الآية الثانية الحصر بالنسبة إلى من آثرها أو هو من باب تغليب الغالب على النادر وكذا قوله إنما أنا بشر أراد بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم وبالنسبة إلى جواز النسيان عليه ومثل ذلك يفهم بالقرائن والسياق ( فإن قلت ) ما الفرق بين الحصرين قلت الأول أعني قوله E إنما الأعمال بالنيات قصر المسند إليه على المسند والثاني أعني قوله وإنما لكل امرىء ما نوى قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما يعمل كل امرىء ما نوى إذ القصر بإنما لا يكون إلا في الجزء الأخير وفي الجملة الثانية حصران الأول من إنما والثاني من تقديم الخبر على المبتدأ قوله وإنما لكل امرىء ما نوى تأكيد للجملة الأولى وحمله على التأسيس أولى لإفادته معنى لم يكن في الأول على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى وكل اسم موضوع لاستغراق إفراد المنكر نحو ( كل نفس ذائقة الموت ) والمعرف المجموع نحو ( وكلهم آتيه ) وإجزاء المفرد المعرف نحو كل زيد حسن فإذا قلت أكلت كل رغيف لزيد كانت لعموم الإفراد فإن أضفت الرغيف لزيد صارت لعموم أجزاء فرد واحد والتحقيق إن كلا إذا أضيفت إلى النكرة تقتضي عموم الإفراد وإذا أضيفت إلى المعرفة تقتضي عموم الاجزاء تقول كل رمان مأكول ولا تقول كل الرمان مأكول .
( بيان البيان ) في قوله إلى دنيا يصيبها تشبيه وهو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى أو في وصف من أوصاف أحدهما في نفسه كالشجاعة في الأسد والنور في الشمس وأركانه أربعة المشبه والمشبه به وأداة التشبيه ووجهه وقد ذكرنا أن المراد بالإصابة الحصول فالتقدير فمن كانت هجرته إلى تحصيل الدنيا فهجرته حاصلة لأجل الدنيا غير مفيدة له في الآخرة فكأنه شبه تحصيل الدنيا بإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود .
( بيان البديع ) فيه من أقسامه التقسيم بعد الجمع والتفصيل بعد الجملة وهو قوله فمن كانت هجرته إلى دنيا إلى آخره