إن كان بكاؤهن مجردا يكون النهي عنه للتنزيه خشية أن يسترسلن فيه فيفضي بهن إلى الأمر المحرم لضعف صبرهن ولا يكون النهي للتحريم فلذا أصررن عليه متأولات وقيل كان بكاؤهن بنياح ولذا تأكد النهي ولو كان مجرد دمع العين لم ينه عنه لأنه رحمة وليس بحرام قلت إن كان الأمر كما ذكر يحمل حالهن على أن الرجل لم يسند النهي إلى رسول الله فلهذا لم يطعنه قوله فقلت مقول عائشة قوله أرغم الله أنفك بالراء والغين المعجمة أي ألصق الله أنفك بالرغام بفتح الراء وهو التراب دعت عليه حيث لم يفعل ما أمره رسول الله به وهو أن ينهاهن وحيث لم يتركه على ما كان عليه من الحزن بإخبارك ببكائهن وإصررهن عليه وتكرارك ذلك قال الكرماني فإن قلت هو فعل ما أمره به ولكنهن لم يطعنه قلت حيث لم يترتب على فعله الامتثال فكأنه لم يفعله أو هو لم يفعل الحثو وقال بعضهم لفظة لم يعبر بها عن الماضي وقولها ذلك وقع قبل أن يتوجه فمن أين علمت أنه لم يفعل فالظاهر أنها قامت عندها قرينة بأنه لا يفعل فعبرت عنه بلفظ الماضي مبالغة في نفي ذلك عنه انتهى قلت لا يقال لفظة لم يعبر بها عن الماضي وإنما يقال حرف لم حرف جزم لنفي المضارع وقلبه ماضيا وهذا هو الذي قاله أهل العربية وقوله فعبرت عنه بلفظ الماضي ليس كذلك لأنه غير ماض بل هو مضارع ولكن صار معناه معنى الماضي بدخول لم عليه قوله من العناء بفتح العين المهمة بعدها النون وبالمد وهو المشقة والتعب وفي رواية لمسلم من العي بكسر العين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف قيل وقع في رواية العذري من الغي بفتح الغين المعجمة ضد الرشد قال القاضي عياض ولا وجه له هنا ورد عليه بأن له وجها ولكن الأول أليق لموافقته لرواية العناء التي هي رواية الأكثرين وقال النووي معناه أنك قاصر لا تقوم بما أمرت به من الإنكار لنقصك وتقصيرك ولا تخبر النبي بقصورك عن ذلك حتى يرسل غيرك فيستريح من العناء .
ذكر ما يستفاد منه فيه جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار وفيه الحث على الصبر وقال الطبري إن قال القائل إن أحوال الناس في الصبر متفاوتة فمنهم من يظهر حزنه على المصيبة في وجهه بالتغيير له وفي عينيه بانحدار الدموع ولا ينطق بشيء من القول ومنهم من يجمع ذلك كله ويزيد عليه إظهاره في مطعمه وملبسه ومنهم من يكون حاله في المصيبة وقبلها سواء فأيهم المستحق لاسم الصبر قد اختلف الناس في ذلك فقال بعضهم المستحق لاسم الصبر هو الذي يكون في حاله مثلها قبلها ولا يظهر عليه حزن في جارحة ولا لسان كما زعمت الصوفية أن الولي لا تتم له الولاية إلا إذا تم له الرضى بالقدر ولا يحزن على شيء والناس في هذا الحال مختلفون فمنهم من في قلبه الجلد وقلة المبالاة بالمصائب ومنهم من هو بخلاف ذلك فالذي يكون طبعه الجزع ويملك نفسه ويستشعر الصبر أعظم أجرا من الذي يتجلد طباعه قال الطبري كما روي عن ابن مسعود أنه نعى أخوه عتبة قال لقد كان من أعز الناس علي وما يسرني أنه بين أظهركم اليوم حيا قالوا وكيف هو من أعز الناس عليك قال إني لأوجر فيه أحب إلي من أن يؤجر في وقال ثابت إن الصلت بن أشيم مات أخوه فجاء رجل وهو يطعم فقال يا أبا الصهباء إن أخاك مات قال هلم فكل قد نعي إلينا فكل قال والله ما سبقني إليك أحد ممن نعاه قال يقول الله D إنك ميت وإنهم ميتون ( الزمر 03 ) وقال الشعبي كان شريح رضي الله تعالى عنه يدفن جنائزه ليلا فيغتنم ذلك فيأتيه الرجل حين يصبح فيسأله عن المريض فيقول هذا لله الشكر وأرجو أن يكون مستريحا وكان ابن سيرين يكون عند المصيبة كما هو قبلها يتحدث ويضحك إلا يوم ماتت حفصة فإنه جعل يكشر وإنت تعرف في وجهه وسئل ربيعة ما منتهى الصبر قال أن تكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه وأما جزع القلب وحزن النفس ودمع العين فإن ذلك لا يخرج العبد من معاني الصابرين إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز له فعل لأن نفوس بني آدم مجبولة على الجزع من المصائب وقد مدح الله تعالى الصابرين ووعدهم جزيل الثواب عليه وتغيير الأجساد عن هيآتها ونقلها عن طبعها الذي جبلت عليه لا يقدر عليه إلا الذي أنشأها وروى المقبري عن أبي هريرة مرفوعا قال قال الله تعالى إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عواده أنشطه من عقاله وبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه ويستأنف العمل وفيه دليل على أن المنهي عن المنكر إن لم ينته عوقب وأدب إن أمكن وفيه جواز نظر النساء المحتجبات إلى الرجال الأجانب وفيه جواز التميين لتأكيد الخبر