كون العهد من وجوهه على أنا وإن سلمنا ما قاله ولكنا لا نسلم كونه للعهد ههنا لان تعريف الإسم تارة يكون لواحد من أفراد الحقيقة الجنسية باعتبار عهديته في الذهن لكونه فردا من أفرادها وتارة يكون لاستغراق جميع الأفراد ولا يفرق بينهما إلا بالقرينة على أنا نقول إن المعهود الذهني في المعنى كالنكرة نحو رجل فإن السوق في قولك ادخل السوق يحتمل كل فرد فرد من أفراد السوق على البدل كما أن رجلا يحتمل كل فرد فرد من ذكور بني آدم على البدل ولهذا يقدر يسبني في قول الشاعر .
ولقد أمر على اللئيم يسبني .
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني .
وصفا للئيم لا حالا لوجوب كون ذي الحال معروفة واللئيم كالنكرة فافهم فان قلت قد وقع في ( مسند الحارث بن أبي اسامة ) عن ابراهيم بن سعد ثم جهاد بالتنكير كما وقع إيمان وحج قلت يكون التنكير في الجهاد على هذه الرواية للإفراد الشخصي كما في الإيمان والحج مع قطع النظر عن تكرره عند الاحتياج أو يكون التنوين في الثلاثة إشارة إلى التعظيم وبهذا يرد على من يقول إن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة لأن مخرجه واحد فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة ولقد صدق القائل انباض عن غير توتير .
بيان استنباط الفوائد منها الدلالة على نيل الدرجات بالأعمال ومنها الدلالة على أن الإيمان قول وعمل ومنها الدلالة على أن الأفضل بعد الإيمان الجهاد وبعده الحج المبرور فان قلت في حديث ابن مسعود Bه أي العمل أفضل قال الصلاة على وقتها ثم ذكر بر الوالدين ثم الجهاد وفي حديث ابن عمر Bهما أي الاسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وفي حديث ابي موسى Bه أي الإسلام افضل قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وفي حديث ابي ذر Bه سألت رسول الله أي العمل أفضل قال الإيمان بالله والجهاد في سبيله قلت فأي الرقاب افضل قال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها الحديث ولم يذكر فيه الحج وكلها في الصحيح قلت قد ذكر الإمام الحسين بن الحسن بن محمد بن حكيم الحليمي الشافعي عن القفال الكبير الشافعي الشاشي واسمه ابو بكر محمد بن علي في كيفية الجمع وجهين أحدهما أنه جرى على اختلاف الأحوال والأشخاص كما روي أنه عليه السلام قال حجة لمن يحج افضل من أربعين غزوة وغزوة لمن حج أفضل من أربعين حجة والآخر أن لفظة من مرادة والمراد من أفضل الأعمال كذا كما يقال فلان أعقل الناس أي من أعقلهم ومنه قوله عليه السلام خيركم خيركم لأهله ومعلوم انه لا يصير بذلك خير الناس قلت وبالجواب الأول أجاب القاضي عياض فقال أعلم كل قوم بما لهم إليه حاجة وترك ما لم تدعهم إليه حاجة أو ترك ما تقدم علم السائل إليه أو علمه بما لم يكمله من دعائم الإسلام ولا بلغه عمله وقد يكون للمتأهل للجهاد الجهاد في حقه أولى من الصلاة وغيرها وقد يكون له أبوان لو تركهما لضاعا فيكون برهما أفضل لقوله عليه السلام ففيهما فجاهد وقد يكون الجهاد أفضل من سائر الأعمال عند استيلاء الكفار على بلاد المسلمين قلت الحاصل أن اختلاف الأجوبة في هذه الأحاديث لاختلاف الأحوال ولهذا سقط ذكر الصلاة والزكاة والصيام في هذا الحديث المذكور في هذا الباب ولا شك أن الثلاث مقدمات على الحج والجهاد ويقال إنه قد يقال خير الأشياء كذا ولا يراد أنه خير من جميع الوجوه في جميع الأحوال والاشخاص بل في حال دون حال فإن قيل كيف قدم الجهاد على الحج مع أن الحج من أركان الاسلام والجهاد فرض كفاية يقال إنما قدمه للاحتياج إليه أول الإسلام ومحاربة الأعداء ويقال إن الجهاد قد يتعين كسائر فروض الكفاية وإذا لم يتعين لم يقع الا فرض كفاية وأما الحج فالواجب منه حجة واحدة وما زاد نفل فإن قابلت واجب الحج بمتعين الجهاد كان الجهاد أفضل لهذا الحديث ولأنه شارك الحج في الفرضية وزاد بكونه نفعا متعديا إلى سائر الأمة وبكونه ذبا عن بيضة الإسلام وقد قيل ثم ههنا للترتيب في الذكر كقوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا ( البلد 17 ) وقيل ثم لا يقتضي ترتيبا فإن قابلت نفل الحج بغير متعين الجهاد كان الجهاد أفضل لما أنه يقع فرض كفاية وهو أفضل من النفل بلا شك وقال إمام الحرمين في كتاب ( الغياثى ) فرض الكفاية عندي أفضل من فرض العين من حيث أن فعله مسقط للحرج عن الأمة بأسرها وبتركه يعصى المتمكنون منه كلهم ولا شك في عظم وقع ما هذه صفته والله اعلم