الثانية تأكيد للأولى ثم إن البخاري C لم يأت من هذه الأشياء إلا بالبسملة فقط وذكر بعضهم أنه بدأ بالبسملة للتبرك لأنها أول آية في المصحف أجمع على كتابتها الصحابة قلت لا نسلم أنها أول آية في المصحف وإنما هي آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور وهذا مذهب المحققين من الحنفية وهو قول ابن المبارك وداود وأتباعه وهو المنصوص عن أحمد على أن طائفة قالوا أنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل وهو قول مالك وبعض الحنفية وبعض الحنابلة وعن الأوزاعي أنه قال ما أنزل الله في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم إلا في سورة النمل وحدها وليست بآية تامة وإنما الآية ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) وروى عن الشافعي أيضا أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة وإنما يستفتح بها في السور تبركا بها ثم أنهم اعتذروا عن البخاري بأعذار هي بمعزل عن القبول ( الأول ) أن الحديث ليس على شرطه فإن في سنده قرة بن عبد الرحمن ولئن سلمنا صحته على شرطه فالمراد بالحمد الذكر لأنه قد روى بذكر الله تعالى بدل حمد الله وأيضا تعذر استعماله لأن التحميد إن قدم على التسمية خولف فيه العادة وإن ذكر بعدها لم يقع به البداءة قلت هذا كلام واه جدا لأن الحديث صحيح صححه ابن حبان وأبو عوانة وقد تابع سعيد بن عبد العزيز قرة كما أخرجه النسائي ولئن سلمنا أن الحديث ليس على شرطه فلا يلزم من ذلك ترك العمل به مع المخالفة لسائر المصنفين ولو فرضنا ضعف الحديث أو قطعنا النظر عن وروده فلا يلزم من ذلك أيضا ترك التحميد المتوج به كتاب الله تعالى والمفتتح به في أوائل السور عن الكتب والخطب والرسائل وقولهم فالمراد بالحمد الذكر ليس بجواب عن تركه لفظ الحمد لأن لفظة الذكر غير لفظة الحمد وليس الآتي بلفظة الذكر آتيا بلفظة الحمد المختص بالذكر في افتتاح كلام الله تعالى والمقصود التبرك باللفظ الذي افتتح به كلام الله تعالى وقولهم أيضا تعذر استعماله إلى آخره كلام من ليس له ذوق من الإدراكات لأن الأولية أمر نسبي فكل كلام بعده كلام هو أول بالنسبة إلى ما بعده فحينئذ من سمى ثم حمدا يكون بادئا بكل واحد من البسملة والحمدلة أما البسملة فلأنها وقعت في أول كلامه وأما الحمدلة فلأنها أول أيضا بالنسبة إلى ما بعدها من الكلام ألا ترى أنهم تركوا العاطف بينهما لئلا يشعر بالتبعية فيخل بالتسوية وبهذا أجيب عن الاعتراض بقولهم بين الحديثين تعارض ظاهر إذ الابتداء بأحدهما يفوت الابتداء بالآخر ( الثاني ) إن الافتتاح بالتحميد محمول على ابتداآت الخطب دون غيرهما زجرا عما كانت الجاهلية عليه من تقديم الشعر المنظوم والكلام المنثور لما روى أن أعرابيا خطب فترك التحميد فقال عليه السلام كل أمر الحديث قلت فيه نظر لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ( الثالث ) أن حديث الافتتاح بالتحميد منسوخ بأنه عليه السلام لما صالح قريشا عام الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمر فلولا نسخ لما تركه قلت هذا أبعد الأجوبة لعدم الدليل على ذلك لم لا يجوز أن يكون الترك لبيان الجواز ( الرابع ) أن كتاب الله D مفتتح بها وكتب رسوله عليه السلام مبتدأة بها فلذلك تأسى البخاري بها قلت لا يلزم من ذلك ترك التحميد ولا فيه إشارة إلى تركه ( الخامس ) إن أول ما نزل من القرآن اقرأ و ( يا أيها المدثر ) وليس في ابتدائهما حمدا لله فلم يجز أن يأمر الشارع بما كتاب الله على خلافه قلت هذا ساقط جدا لأن الاعتبار بحالة الترتيب العثماني لا بحالة النزول إذ لو كان الأمر بالعكس لكان ينبغي أن يترك التسمية أيضا ( السادس ) إنما تركه لأنه راعى قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) فلم يقدم بين يدي الله ولا رسوله شيئا وابتدأ بكلام رسوله عوضا عن كلام نفسه ( قلت ) الآتي بالتحميد ليس بمقدم شيئا أجنبيا بين يدي الله ورسوله وإنما هو ذكره بثنائه الجميل لأجل التعظيم على أنه مقدم بالترجمة وبسوق السند وهو من كلام نفسه فالعجب أنه يكون بالتحميد الذي هو تعظيم الله تعالى مقدما ولا يكون بالكلام الأجنبي وقولهم الترجمة وإن تقدمت لفظا فهي كالمتأخرة تقديرا لتقدم الدليل على مدلوله وضعا وفي حكم التبع ليس بشيء لأن التقديم والتأخير من أحكام الظاهر لا التقدير فهو في الظاهر مقدم وإن كان في نية التأخير وقولهم لتقدم الدليل على مدلوله لا دخل له ههنا فافهم ( السابع ) إن الذي اقتضاه لفظ الحمد أن يحمد لا أن يكتبه والظاهر أنه حمد بلسانه قلت يلزم على هذا عدم إظهار التسمية مع ما فيه من المخالفة لسائر المصنفين والأحسن فيه ما سمعته من بعض أساتذتي