من غير أن يدفع ذلك المحذور وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد الذي يترجح عندي في الجمع بينهما أن في الإقدام عليه تعريض النفس للبلاء ولعلها لا تصبر عليه وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك حذرا من اغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند الاختبار وأما الفرار فقد يكون داخلا في التوغل في الأسباب بصورة من يحاول النجاة بما قدر عليه فأمرنا الشارع بترك التكلف في الحالتين ومن هذه المادة قوله صلى الله عليه وسلّم لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا فأمر بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف اغترار النفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع تسليما لأمر الله تعالى وفي قصة عمر من الفوائد مشروعية المناظرة والاستشارة في النوازل وفي الأحكام وأن الاختلاف لا يوجب حكما وأن الاتفاق هو الذي يوجبه وأن الرجوع عند الاختلاف إلى النص وأن النص يسمى علما وأن الأمور كلها تجري بقدر الله وعلمه وأن العالم قد يكون عنده ما لا يكون عند غيره ممن هو أعلم منه وفيه وجوب العمل بخبر الواحد وهو من أقوى الأدلة على ذلك لأن ذلك كان باتفاق أهل الحل والعقد من الصحابة فقبلوه من عبد الرحمن بن عوف ولم يطلبوا معه مقويا وفيه الترجيح بالأكثر عددا والأكثر تجربة لرجوع عمر لقول مشيخة قريش مع ما انضم إليهم ممن وافق رايهم من المهاجرين والأنصار فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والأنصار ووازن ما عند الذين خالفوا ذلك من مزيد الفضل في العلم والدين ما عند المشيخة من السن والتجارب فلما تعادلوا من هذه الحيثية رجح بالكثرة ووافق اجتهاده النص فلذلك حمد الله تعالى على توفيقه لذلك وفيه تفقد الإمام أحوال رعيته لما فيه من إزالة ظلم المظلوم وكشف كربة المكروب وردع أهل الفساد وإظهار الشرائع والشعائر وتنزيل الناس منازلهم الحديث الثالث حديث أبي هريرة لا يدخل المدينة المسيح ولا الطاعون كذا أورده مختصرا وقد أورده في الحج عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أتم من هذا بلفظ على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال وقدمت هناك ما يتعلق بالدجال وأخرجه في الفتن عن القعنبي عن مالك كذلك ومن حديث أنس رفعه المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة فلا يدخلها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كون الطاعون شهادة وكيف قرن بالدجال ومدحت المدينة بعدم دخولهما والجواب أن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه لكونه سببه فإذا استحضر ما تقدم من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة ومن اتفق دخوله إليها لا يتمكن من طعن أحد منهم فإن قيل طعن الجن لا يختص بكفارهم بل قد يقع من مؤمنيهم قلنا دخول كفار الإنس المدينة ممنوع فإذا لم يسكن المدينة إلا من يظهر الإسلام جرت عليه أحكام المسلمين ولو لم يكن خالص الإسلام فحصل الأمن من وصول الجن إلى طعنهم بذلك فلذلك لم يدخلها الطاعون أصلا وقد أجاب القرطبي في المفهم عن ذلك فقال المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس والجارف وهذا الذي قاله يقتضي تسليم أنه دخلها في الجملة وليس كذلك فقد جزم بن قتيبة في المعارف وتبعه جمع جم من آخرهم الشيخ محيي الدين النووي في الأذكار بان الطاعون لم يدخل المدينة أصلا ولا مكة أيضا لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلا