وبيان ذلك أن اليهود زعموا أنهم هم الشعب المختار من بين شعوب الخلق وادعوا أن الدار الآخرة وقف عليهم وخالصة لهم من دون الناس فخاطب الله رسوله في سورة البقرة يرد عليهم ويتحداهم بقوله قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ثم قال ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين فأنت ترى هذا النظم الكريم يبطل مزاعم اليهود بطلب يبدو لكل ناظر أنه هين وهو أن يتمنوا الموت لو كانوا صادقين في ادعائهم أن نعيم الآخرة وقف عليهم ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولا ولو بألسنتهم نحن نتمنى الموت كي تنهض حجتهم على محمد ويكنوه لكنهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول إني أتمنى الموت وعلى ذلك قامت الحجة عليهم وبان كذبهم في كبريائهم وغرورهم وبلغ من أمر القرآن معهم أنه نفى عنهم هذا التمني نفيا يشمل آباد المستقبل فقال ولن يتمنوه أبدا .
وها قد مضى على نزول القرآن قريب من أربعة عشر قرنا وما تمنى أحد منهم الموت لو كانوا صادقين بل أعلن القرآن في السورة نفسها مبلغ حرصهم على الحياة وأملهم فيها فقال ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون فكان ذلك علما جديدا من أعلام النبوة لأنه تنويه بغيب حاضر لم يكن يعلمه محمد ولا قومه .
خبرني بربك هل يتصور عاقل أن محمدا وهو في موقف الخصومة الشديدة من اليهود تطوع له نفسه أن يتحداهم هذا التحدي من عنده في لغة الواثق الذي لا يتردد والآمن الذي لا يخاف المستقبل وهل كان يأمن أن يرد عليه واحد منهم فيقول إني أتمنى الموت وهنا تكون القاضية فتنقطع لا قدر الله حجة الرسول ويظهر عجزه وتفشل دعوته أمام قوم هم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا ومن أحرصهم على إفحام الرسول وتعجيزه .
فصدور هذا التحدي من رجل عظيم كمحمد ثم استخذاء هؤلاء وانصرافهم عن الرد عليه وعن إسكاته وهو في مقدور أقل رجل منهم ثم تسجيل هذا الاستخذاء عليهم في الحال بقوله ولتجدنهم أحرص الناس على حياة وفي الاستقبال بقوله ولن يتمنوه أبدا كل أولئك أدلة ساطعة على أن القرآن كلام علام الغيوب قاهر الألسنة ومقلب القلوب وهي أيضا براهين قاطعة على أن محمدا لا يمكن أن يكون مصدر هذا الكتاب ولا منبع هذا الفيض بل قصاراه أنه مهبط هذا التنزيل وأنه يتلقاه من لدن حكيم عليم