يقول الجمهور من حيث نظام المبنى ودقة المعنى وتمام الوحدة الفنية وإذا قرأت سورة الضحى وسورة اقرأ وسورة الماعون لا تشعر بفارق بينها وبين كثير من السور القصار مثلها من حيث الإحكام والوحدة والانسجام كذلك على حين أن تلك السور الثلاث نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين فقل لي بربك هل يجوز في عقل عاقل أن يكون هذا القرآن كلام محمد أو غير محمد مع ما علمت من هذا الانفصال الزماني البعيد بين أول ما نزل وآخره ومع ما علمت من ارتباط كل نجم بحادثة من أحداث الزمن ووقائعه ومع ما علمت من أن ترتيب هذه النجوم في القرآن ليس على ترتيب هذا النزول الخاضع للحدثان بدليل أن أول ما نزل من القرآن إطلاقا وهو صدر سورة اقرأ مدون بالمصحف في أواخره وبدليل أن آخر ما نزل منه إطلاقا وهو آية واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله مدون بالمصحف في أوائله .
إن كنت في شك من أن هذا الكتاب المحكم الرصين قد جاء في طريقة تأليفه معجزة فاجمع أهل الدنيا يظاهر بعضهم بعضا واطلب إليهم أن يؤلفوا لك كتابا في حجم سورة البقرة لا في حجم سورة القرآن كله لكن على شرط أن تكون طريقة تأليفه هي الطريقة التي خضعت لها سورة البقرة من الارتباط بأحداث الزمن ووقائعه ومن وضع هذه النجوم مبعثرة غير مرتبة في الكتاب بترتيب الأحداث والوقائع ثم من تمام هذا الكتاب أخيرا على وحدة فنية تربط بين بداياته ونهاياته وأوساطه وسائر أجزائه فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا فاطلب إليهم أن يعمدوا مثلا إلى حديث النبي وهو ما هو في روعته وبلاغته وطهره وسموه وقد قاله الرسول في أوقات مختلفة واسألهم بعد ذلك هل في مكنتهم أن ينظموا من هذا السرد الشتيت الماثل أمامهم كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة كالقرآن من غير أن ينقصوا منه أو يتزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون ومن حاوله من الخلق فإنما يحاول العبث العابث وسيخرج إلى الناس من هذه المحاولة بثوب مرقع وكلام مشوش ينقصه الترابط والانسجام وتعوزه الوحدة والاسترسال وتمجه الأسماع والأفهام .
إذن فالقرآن الكريم تنطق طريقة تأليفه بأنه لا يمكن أن يكون صادرا إلا ممن له السلطان الكامل على الفلك ودورته والعلم المحيط بالزمن وحوادثه والبقاء السرمدي حتى يبلغ مراده وينفذ مشيئته ذلكم الله وحده الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض والذي يعلم الغيب في السموات وفي الأرض والذي لا يذوق الموت ولا تأخذه سنة ولا نوم