والإعادة في مواجهة منكريهما كيف يسوق استدلاله سوقا يهز القلوب هزا ويمتع العاطفة إمتاعا بما جاء في طي هذه الأدلة المسكتة المقنعة إذ قال الله سبحانه في سورة فصلت ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحى الموتي إنه على كل شيء قدير وإذا قال في سورة ق أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددنها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج تأمل في الأسلوب البارع الذي أقنع العقل وأمتع العاطفة في آن واحد حتى في الجملة التي هي بمثابة النتيجة من مقدمات الدليل إذ قال في الآية الأولى إن الذي أحياها لمحي الموتى وفي الآيات الأخيرة كذلك الخروج يا للجمال الساحر ويا للإعجاز الباهر الذي يستقبل عقل الإنسان وقلبه معا بأنصع الأدلة وأمتع المعروضات في هذه الكلمات المعدودات .
ثم انظر إلى القرآن وهو يسوق قصة يوسف مثلا كيف يأتي في خلالها بالعظات البالغة ويطلع من خلالها بالبراهين الساطعة على وجوب الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة إذ قال في فصل من فصول تلك الرواية الرائعة وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون فتأمل في هذه الآية كيف قوبلت دواعي الغواية الثلاث بدواعي العفاف الثلاث مقابلة صورت من القصص الممتع جدالا عنيفا بين جند الرحمن وجند الشيطان ووضعتها أمام العقل المنصف في كفتي ميزان وهكذا تجد القرآن كله مزيجا حلوا سائغا يخفف على النفوس أن تجرع الأدلة العقلية ويرفه عن العقول باللفتات العاطفية ويوجه العقول والعواطف معا جنبا إلى جنب لهداية الإنسان وخير الإنسان .
وهل تسعد بمثل هذا في كلام البشر لا ثم لا بل كلامهم إن وفى بحق العقل بخس العاطفة حقها وإن وفى بحق العاطفة بخس العقل حقه وبمقدار ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر حتى لقد بات العرف العام يقسم الأساليب البشرية إلى نوعين لا ثالث لهما أسلوب علمي وأسلوب أدبي فطلاب العلم لا يرضيهم أسلوب الأدب وطلاب الأدب لا يرضيهم أسلوب العلم وهكذا تجد كلام العلماء والمحققين فيه من الجفاء والعري ما لا يهز القلوب ويحرك النفوس وتجد في كلام الأدباء والشعراء من الهزال والعقم العلمي ما لا يغذي الأفكار ويقنع العقول ذلك لأن القوى العاقلة والقوى الشاعرة في بني الإنسان غير متكافئة وعلى فرض تكافئها في شخص فإنهما لا تعملان دفعة واحدة بل على سبيل البدع والمناوبة فكلام الشخص إما وليد فكرة وإما وليد