من انفراده بالشدة والعنف أو السباب والإقذاع فقد علمت مبلغ ما فيه من كذب وافتراء وجهالة بما جاء في القرآن من ترغيب وترهيب في شطريه المكي والمدني على السواء .
وإن أرادوا بانحطاطه الإشارة إلى قصر آياته أو إلى خلوه من التشريعات التفصيلية العملية فهذا لا يدل على الانحطاط بل قصر الآيات والخلو من تفاصيل التشريع لهما وجه آخر يظهر عند الكلام عليهما في الشبهات الآتية .
وإن أرادوا بما ذكروا أن أهل مكة كانوا منحطين في الفصاحة والبيان والذكاء والألمعية فتلك ثالثة الأثافي لأن التاريخ شاهد عدل بأن قريشا كانت في مركز الزعامة من جميع قبائل العرب يصدرون عن رأيها ويرجعون إلى حكمها ويأخذون عنها ويركبون ظهور الإبل إليها وينزلون على قولها فيما يعلو وينزل من منظوم ومنثور ويذعنون لها بالسبق في مضمار الفصاحة والبلاغة والذكاء والألمعية والشرف والنبل .
وكان لها هذا الامتياز من قبل الإسلام .
ثم دام لها وزاد عليها في الإسلام .
واعترف لها به أهل المدينة وغيرهم من عرب وأعجام .
ثم إن وصف القسم المكي بميزات الأوساط المنحطة تهمة جريئة وطعنة طائشة وأكذوبة مكشوفة ما رضيها لأنفسهم أعداء الإسلام في فجر دعوته من مشركين وأهل كتاب وعرب وعجم وأميين ومثقفين على حين أن أولئك العرب كانوا على أميتهم أعرف الناس بانحطاط الكلام ورقيه وعلوه ونزوله .
كما كانوا أحرص الناس على إحراج محمد ودحض حجته ونقض دينه والقضاء على الإسلام في مهده .
ولكن سجيتهم لم تسمح بهذا الهراء الذي يهرف به الملاحدة في القسم المكي من القرآن .
بل نعلم بجانب هذا أن القرآن كان له سلطان على نفوسهم إلى حد خارق مدهش يقودهم بقوته إلى الإسلام ويدفع المعاند منهم إذا استمع إليه أن يسجد لبلاغته ويهتز لفصاحته وأن يأخذ نفسه بالتشاغل عنه مخافة أن يؤمن عن طريق تأثره بسماعه .
وأما زعمهم انقطاع الصلة بين القسم المكي والمدني والتعارض بين أسلوبيهما فهو زعم ساقط مبني على الاعتبارات الخاطئة الماضية التي أثبتنا بطلانها .
ثم هو دعوى ماجنة يكذبها الواقع ويفندها الذوق البلاغي المنصف .
وأدل دليل على ذلك أن أساطين البلاغة من أعداء الإسلام في مكة نفسها أيام نزول القرآن لم يستطيعوا أن يتهموا أساليب التنزيل بمثل هذا الاتهام ولا كذبا لأنهم كانوا أعقل من ملاحدة اليوم يرون أن هذا الاتهام يكون كذبا مكشوفا وافتراء مفضوحا .
بل هذا وحيدهم الوليد بن المغيرة يقول للملأ من قريش والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى