لما قبله قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك كاره له قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وأنه ليعلو ولا يعلى عليه وأنه ليحطم ما تحته قال لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال دعني حتى أفكر فلما فكر قال هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره .
5285 - قال الجاحظ بعث الله محمدا أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا وأحكم ما كانت لغة وأشد ما كانت عدة فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة حملهم على حظهم بالسيف فنصب لهم الحرب ونصبوا له وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة أو بآيات يسيرة .
فكلما إزداد تحديا لهم بها وتقريعا لعجزهم عنها تكشف من نقصهم ما كان مستورا وظهر منه ما كان خفيا فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف فلذلك يمكنك ما لا يمكننا .
قال فهاتوها مفتريات فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولا طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكايد فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض .
فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم وإستحالة لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال .
وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفي على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور .
ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم فمحال أكرمك الله أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص