قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذان عن أم هانىء بنت أبي طالب في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنها كانت تقول : [ ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى العشاء الاخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبيل الفجر أهبنا برسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال : يا أم هانىء لقد صليت معكم العشاء الاخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الان كما ترين ] الكلبي متروك بمرة ساقط لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري عن ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن أبي صالح عن أم هانىء بأبسط من هذا السياق فليكتب ههنا وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة عن أم هانىء قالت : بات رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة أسري به في بيتي ففقدته من الليل فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ إن جبريل عليه السلام أتاني فأخذ بيدي فأخرجني فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار فحملني عليها ثم انطلق حتى أتى بي إلى بيت المقدس فأراني إبراهيم عليه السلام يشبه خلقه خلقي ويشبه خلقي خلقه وأراني موسى آدم طويلا سبط الشعر شبهته برجال أزد شنوءة وأراني عيسى بن مريم ربعة أبيض يضرب إلى الحمرة شبهته بعروة بن مسعود الثقفي وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى شبهته بقطن بن عبد العزى ـ قال ـ وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت فأخذت بثوبه فقلت : إني أذكرك الله إنك تأتي قومك يكذبوك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك قالت : فضرب ثوبه من يدي ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس فأخبرهم ما أخبرني فقام جبير بن مطعم فقال يا محمد ان لو كنت لك شأن كما كنت ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا فقال رجل من القوم : يا محمد هل مررت بإبل لنا في مكان كذا كذا ؟ قال : نعم والله قد وجدتهم قد أضلوا بعيرا لهم فهم في طلبه قال : هل مررت بإبل فلان ؟ قال : نعم وجدتهم في مكان كذا وكذا وقد انكسرت لهم ناقة حمراء وعندهم قصعة من ماء فشربت ما فيها قالوا : فأخبرنا عدتها من الرعاة ؟ قال قد كنت عن عدتها مشغولا فنام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة ثم أتى قريشا فقال لهم سألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاة فلان وفلان وسألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان وهي تصبحكم بالغداة على الثنية قال : فقعدوا على الثنية ينظرون أصدقهم ما قال فاستقبلوا الإبل فسألوهم : هل ضل لكم بعير ؟ فقالوا : نعم فسألوا الاخر هل انكسرت لكم ناقة حمراء ؟ قالوا : نعم قالوا : فهل كانت عندكم قصعة ؟ قال أبو بكر : أنا والله وضعتها فما شربها أحد ولا أهرقوه في الأرض فصدقه أبو بكر وآمن به فسمي يومئذ الصديق ] .
( فصل ) وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يتحصل على مطلب وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط ومرة من مكة إلى السماء فقط ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء وفرح بهذا المسلك وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات وهذا بعيد جدا ولم ينقل هذا عن أحد من السلف ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم به أمته ولنقله الناس على التعدد والتكرر .
قال موسى بن عقبة الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وكذا قال عروة وقال السدي : بستة عشر شهرا والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ثم أتى بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السموات السبع فتلقاه من كل سماء مقربوها وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم حتى مر بموسى الكليم في السادسة وإبراهيم الخليل في السابعة ثم جاوز منزلتهما صلى الله عليه وسلّم وعليهما وعلى سائر الأنبياء حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام أي أقلام القدر بما هو كائن ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق ورأى البيت المعمور وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ورأى الجنة والنار فرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفا بعباده وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها .
ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة ويحتمل أنها الصبح من يومئذ ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا وهو يخبره بهم وهذا هو اللائق لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك .
ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس والله سبحانه وتعالى أعلم وأما عرض الانية عليه من اللبن والعسل أو اللبن والخمر أو اللبن والماء أو الجميع فقد ورد أنه في بيت المقدس وجاء أنه في السماء ويحتمل أن يكون ههنا وههنا لأنه كالضيافة للقادم والله أعلم ثم اختلف الناس : هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط ؟ على قولين فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى قبل ذلك مناما ثم رآه بعد يقظة لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح والدليل على هذا قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام فلو كان مناما لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظما ولما بادرت كفار قريش إلى تكذبيه ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم وأيضا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد وقال تعالى { أسرى بعبده ليلا } وقال تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة أسري به والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم رواه البخاري وقال تعالى : { ما زاغ البصر وما طغى } والبصر من آلات الذات لا الروح وأيضا فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم .
وقال آخرون بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلّم بروحه لا بجسده قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : حدثني يعقوب بن عبتة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : كانت رؤيا من الله صادقة وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولكن أسري بروحه قال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولها لقول الحسن إن هذه الاية نزلت { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ولقول الله في الخبر عن إبراهيم { إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } قال : ثم مضى على ذلك فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظا ونياما فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : [ تنام عيناي وقلبي يقظان ] والله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين من الله فيه ما عاين على أي حالاته كان نائما أو يقظانا كل ذاك حق وصدق انتهى كلام ابن إسحاق وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم والله أعلم